طرابلس ـ مفتاح المصباحي
يبدو أن المشهد الليبي أصبح أكثر سخونة من ذي قبل، حيث لازالت الحكومة المؤقتة غير قادرة على فرض سيطرتها الأمنية على كامل تراب البلد، رغم صرف المليارات على انضمام الثوار للجيش والشرطة، وتدريبهم في الداخل والخارج، ورغم استقالة وزير الداخلية وتكليف آخر مكانه، وكذلك الحال مع رئيس الأركان الذي أجبر هو الآخر على تقديم استقالته تحت ضغوط كبيرة من وحدات وضباط في الجيش الليبي
، وتكليف معاونه كرئيس للأركان لحين اختيار آخر من قبل المؤتمر الوطني العام (البرلمان).
ورغم المهمة الرئيسة التي تم من أجلها انتخابه، إلا أن المؤتمر الوطني العام(البرلمان) لم يستطع حتى اللحظة إنجاز مهمة تشكيل الهيئة التأسيسية لكتابة الدستور رغم قصر الفترة المتبقية له حسب الإعلان الدستوري، وهو ما جعل البلاد تسير بقوانين ولوائح تمَّ سنَّها في عهد النظام السابق، رغم عدم توافقها مع متطلبات مرحلة ما بعد الثورة.
وتحتل ليبيا موقعاً جغرافياً مميزاً بوجودها في مدخل أفريقيا الشمالي، وقلباً جامعاً بين جناحي الوطن العربي الشرقي والغربي، وقربها من السواحل الجنوبية للقارة الأوروبية، وكذلك طول ساحلها على البحر الأبيض المتوسط، وكذلك مساحة البلاد الكبيرة وما تحويه من ثرواتٍ طبيعية أهمها النفط الذي هو من أجود الأنواع المستخرجة، وكذلك الغاز الطبيعي، وهو ما جعلها نقطة بارزة على خريطة العالم الجيوسياسية.
ويذهب البعض في تفسير أحداث الثورة الليبية على أنها مؤامرة خارجية بين الغرب وبعض دول الخليج العربي، حيث أن أحداث الثورة الليبية بدأت في شهر شباط/فبراير 2011، وفي ذلك الوقت كانت ليبيا تشهد تطوراً عمرانياً لا مثيل له فيه من قبل، حيث بدأت ورش البناء وشق الطرق وإنشاء المدن الحديثة في مناطق البلاد كافة، وكان مشروع ليبيا الغد، الذي قاده سيف الإسلام القذافي آنذاك، أوجد نوعاً من الحرية، والانتعاش الاقتصادي، وإن كان ذلك يصب في مصلحة التوريث للابن من والده.
ويقول هؤلاء إن التقدم الذي تشهده ليبيا سيؤثر سلباً على دول الخليج وبخاصة مع ما تمتاز به ليبيا من قربٍ لأوروبا وأسواقها، وابتعادها عن مناطق التوتر، ومناخها المتوسطي المعتدل، مقارنةً مع المناخ الحار والجاف لدول الخليج، فكان لابد من منع ليبيا من التطور والحداثة، وهكذا كان.. وأيضاً ما وصل إليه العقيد القذافي من نجاحات على المستويات كافة، مثل تأسيس الاتحاد الأفريقي والقمم المتتالية على الأرض الليبية، والمصالحة مع الغرب وقفل الملفات التي سببت توتراً وتباعداً بين الطرفين لعقود من الزمن، وتوافد زعماء الغرب على خيمة القذافي طلباً للمصالح في ظل أزمة مالية عالمية طالت أغلب اقتصادات العالم بأنواعها، وكذلك ما يتوفر لليبيا من أرصدة خارجية تستثمر في بقاع العالم كافة.
وبعد سقوط نظام القذافي ومقتله في عام 2011 استيقظ الليبيون والعالم على كابوسٍ مرعب هو أن ليبيا كانت مستودعاً كبيراً للأسلحة، وتم تهريب بعض منها إلى خارج البلاد، وحصلت مجموعات مصنفة عالمياً على أنها إرهابية على كميات من ذلك السلاح ما زاد في تقوية شوكتها، وتوالت الاتهامات من دول الجوار على ليبيا، حيث اتهمها الرئيس التشادي وكذلك المالي والنيجري بأنها سبب القلاقل والتوترات الأمنية في بلدانهم نتيجة انتشار السلاح ووجود مجموعات متطرفة على أراضيها.. وهذا ما أكده تقرير لمجلس الأمن الدولي في شهر شباط/فبراير من هذا العام بأن الأسلحة الليبية يتم تهريبها إلى أكثر من 12 دولة من بينها دول الجوار.
ورغم النجاح الكبير الذي حققه الليبيون في 7/7/2012 بانتخاب المؤتمر الوطني العام(البرلمان) في جو من الأمن والشفافية، رغم غياب العملية الانتخابية عن الواقع الليبي منذ ما يزيد عن الأربعة عقود، إلا أن دخول الأحزاب في تكوين المؤتمر، ووجود مجموعات مسلحة تساند مطالبها التشريعية والتنفيذية بقوة السلاح، جعل المؤتمر الوطني مقيداً ولا حرية مطلقة له في اتخاذ قراراته، وذلك ما حدث فعلاً مع إقرار قانون العزل السياسي والإداري الذي يعتبره كثيرون من بينهم منظمات حقوقية عالمية أنه جاء بقوة السلاح.
ورغم خلو المجتمع الليبي من الطوائف والمذاهب الدينية، حيث أن سكان البلاد هم من المسلمين السنة المالكيين، مع وجود للمذهب الأباضي في مناطق جبل نفوسة لدى السكان الأمازيغ، إلا أن التركيبة القبلية تعتبر الأكثر تعقيداً، مع ما يحسب لها من ميزات طيلة التاريخ الليبي الحديث، وكان نظام القذافي السابق عمل كثيراً على هذه التركيبة من حيث زرع بذور الفتنة بين بعض القبائل الكبيرة، وتقوية أخرى على حساب تهميش غيرها، ولا زالت حتى وقتنا الحاضر مرجعية القبيلة هي الفيصل في كثير من الأمور، حيث عندما تعجز الحكومة عن فعل شيء داخل المجتمع فإن القبيلة بشيوخها وحكمائها قادرة على فعل ذلك الشيء.
ويرتبط أمن ليبيا ارتباطاً وثيقاً بأمن دول الجوار، وكذلك يمثل أهمية كبرى لدول القارة الأوروبية، حتى وصل الأمر بمنسقة الخارجية الأوروبية كاثرين آشتون للقول بأن أمن ليبيا من أمن الاتحاد الأوروبي،
لذلك تسعى دول كثيرة على مساعدة الحكومة الليبية ودعمها في سبيل بناء مؤسسات الدولة وفرض سيطرتها على الأرض، حتى تتفرغ للمهام الأخرى المنوطة بها.
وتمت دعوة رئيس الحكومة الليبية المؤقتة علي زيدان لحضور جانب من اجتماعات دول الثماني الصناعية الكبرى في إيرلندا الشمالية يومي 17-18 من الشهر الجاري، من قبل رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون، حيث سيحضر زيدان مناقشة القمة للملف الليبي الذي هو من بنود جدول أعمالها، وسيحيط المشاركين فيها بالتطورات في المشهد الليبي، وجهود حكومته في سبيل تأسيس دولة القانون والمؤسسات، وبسط الأمن.
وتواجه الحكومة المؤقتة برئاسة علي زيدان مصاعب جمَّة من بينها محاكمة رموز أركان النظام السابق، حيث يقبع البعض منهم داخل سجون في ليبيا بعضها لا يخضع لسيطرة الحكومة، وبعضهم لا زالت تطارده بطاقات القبض الحمراء الصادرة عن محكمة الجنايات الدولية، حيث أعلنت محكمة الجنايات الدولية أن بإمكان ليبيا الاحتفاظ برئيس المخابرات في عهد القذافي عبدالله السنوسي إلى حين البت في الاستئناف الليبي بشأن محاكمته داخل ليبيا، وليس أمام محكمة الجنايات الدولية..
وبرأت محكمة استئناف طرابلس دائرة الجنايات السابعة الخاصة بمحاكمة أركان النظام السابق في جلسة عقدتها الاثنين المتهمين محمد بالقاسم الزوي، وعبد العاطي العبيدي من التهم المنسوبة إليهما في الدعوى المتعلقة بتعويضات حادثة لوكيربي.. حيث اتهمتهما النيابة العامة بإحداث أضرار جسيمة بالمال العام، ومنح تعويضات لأسر ضحايا قضية لوكيربي تزيد عن مليارين وسبعمائة مليون دولار، وخيانة الأمانة التي عهدتها الدولة إليهما بالتفاوض عنها في الخارج.
وأعلن مكتب النائب العام في مؤتمر صحافي بعد صدور الحكم، أن هذه البراءة لا علاقة لها بثورة 17 شباط/فبراير والجرائم التي ارتكبت ضد الشعب الليبي من قبل المتهميْن، وإنما هي تخص قضية فرعية، موضحاً أن للنيابة العامة الحق في الطعن في الحكم ببراءة المتهمين.
وأشار رئيس قسم التحقيق بمكتب النائب العام الصديق الصور إلى أن من بين التهم الأخرى التي يواجهها المتهمان محمد بلقاسم الزوي، وعبد العاطي العبيدي هي القتل الجماعي، والنهب والتخريب، والاعتداء على حقوق الشعب، وكذلك جريمة تفتيت اللحمة الوطنية وإثارة الفتنة بين أبناء الشعب الليبي، والمحافظة على رأس النظام السابق، مؤكداً وجود أدلة وإثباتات تُدينهما في هذه الجرائم.
ولا زال المشهد الأمني في ليبيا يشهد توتراً ملحوظاً، حيث قتل ما يقرب من أربعين شخصاً وجرح، أكثر من مائة شخص في اشتباكات حدثت في مدينة بنغازي شرق البلاد، والتي يعتبرها الليبيون مهد ثورة 17 شباط/فبراير حيث انطلقت منها شرارة الثورة عام 2011، وكان أول هذه الاشتباكات حصل بعد تجمهر عدد من المواطنين أمام إحدى كتائب درع ليبيا للمطالبة بإخلاء المقر الذي تشغله الكتيبة، ليتطور الوضع إلى اشتباك مسلح بين الطرفين أدى لسقوط أكثر من 31 قتيلاً السبت قبل الماضي، وأسفر في نهاية المطاف عن خروج كتيبة الدرع من الموقع، وتجددت الاشتباكات فجر السبت الماضي بعد مهاجمة مجموعة مسلحة من الملثمين مقرات ومعسكرات تابعة للجيش الليبي في المدينة، ليسفر الهجوم عن سقوط خمسة قتلى وجرح آخرين.
ويذهب بعض المواطنين في توجيه الاتهام إلى جماعات متشددة، أو ما يُعرف بالليبيين الأفغان، حيث قالوا أن الطريقة التي تم بها ذبح عنصرين من أفراد الصاعقة، لا يقوم بها إلا أولئك.
وتشهد ليبيا انتشاراً مرعباً للسلاح بحيث أن في إمكان أي مواطن الحصول على كمية السلاح التي يريد عن طريق شرائها بعيداً عن أعين السلطات، وتستحوذ جماعات مسلحة نشأ أغلبها بعد إعلان التحرير عام 2011، على أسس قبلية وعقائدية، ما تسبب في كثير من الأحيان إلى التصادم فيما بينها.
ولا زالت معظم جرائم القتل والخطف والاعتداء على الممتلكات العامة والخاصة تُسجل ضد مجهول، لعدم قدرة المؤسسة الأمنية ولا العدلية الليبية على فرض سيطرتها على أرض الواقع.
وفي هذا السياق فقد تمَّ مساء الأحد الإفراج عن خمسة جنود يتبعون ركن حرس الحدود في الجيش الليبي ويعملون في منطقة الكفرة جنوب شرق ليبيا، قريباً من الحدود الليبية السودانية.
ونقلت وكالة الأنباء الليبية عن آمر المنطقة العسكرية في الكفرة، ميلود مسموس قوله إن عملية الإفراج عن الجنود المختطفين التي جرت في ضواحي مدينة الكفرة تمت بواسطة وجهاء وأعيان قبيلة التبو، بالتنسيق مع كتيبة ربيانة التابعة لحرس الحدود والمنشآت النفطية، وانه تم استلام الجنود المفرج عنهم بعد 18 يوما من الاختطاف في منطقة تبعد قرابة مائة كيلو متر غرب مدينة الكفرة.
ويعتبر ملف النازحين الليبيين في الداخل والخارج من الملفات الشائكة والتي تنتظر حلاً على طريق المصالحة الوطنية التي تباطأت خطواتها في ظل الوضع الأمني المتأزم.
حيث نفذ أطفال ونساء مدينة تاورغاء النازحون عن ديارهم في معسكرات لا تفي بأبسط حقوق الإنسان في بنغازي وطرابلس ومدن أخرى، وقفة احتجاجية الأحد في طرابلس طالبوا فيها المؤتمر الوطني العام (البرلمان)، والحكومة المؤقتة بتمكينهم من العودة إلى مدينتهم التي قرروها في الخامس والعشرين من الشهر الجاري، وتوفير الحماية لهم.
كما طالبوا بتحكيم الشريعة الإسلامية والقانون للحكم في الانتهاكات التي وقعت أثناء أحداث الثورة.
وتشهد دول الجوار مثل مصر وتونس وجوداً كثيفاً لليبيين النازحين أفراداً وعائلات، كانوا يساندون النظام السابق، وتركوا البلاد بعد سقوطه خوفاً من بطش الثوار، ويُعاني كثيرٌ منهم ظروفاً حياتية صعبة بعدما تقطعت بهم السبل، ولا حلَّ في الأفق من قبل البرلمان ولا الحكومة لمأساتهم.
أرسل تعليقك