بقلم : عائشة سلطان
ظل الأطفال والنساء والرجال في تلك القبيلة التي تعيش في أقاصي الجبال زمناً طويلاً جداً مؤمنين بأن المطر في قبيلتهم يصعد إلى السماء وليس العكس، كانوا يحتفون بالحياة ويواجهون آلامهم بالمزيد من الحكايات، ويمررون الوقت بالغناء، لكنهم لا يعرفون شيئاً عما يحدث في العالم، كانوا يعتقدون أنهم هم العالم، إلى أن قررت الحكومة المركزية أن تبني لهم مدرسة، وترسل إليهم معلمين، فاتسعت القبيلة وكبرت، ونبتت لها جهة أخرى كانت تنقصها.. هكذا وصف أحمد بو دهمان قريته في روايته «الحزام»!
يقول: وبعد المدرسة قدم تجار وضيوف، وخرج صبية وشباب منها إلى المدينة ليكملوا تعليمهم، فرأى أهل القرية الشاي والملابس الغربية والجوارب لأول مرة في حياتهم، تغيرت القبيلة ولم يعد عالم أهلها كما كان، وعندما عاد إلى القرية رجل كان قد رافق ابنته للعلاج في بلاد أجنبية، صار يروي لهم مشاهداته عن النساء والسيارات والتلفزيون والهواتف، فأشعل بحكاياته مخيلتهم، وأصاب قلوبهم بلوثة الفضول التي إذا اشتعلت لا يمكن إطفاؤها.
حينما نقرأ كتاباً، ونجلس إلى رجل يعرف أكثر، أو امرأة سافرت إلى الأقاصي وعادت بأكياس معبأة بالأسرار وعلب مغلقة على حكايات تخطف شغف القلب، فإننا في الحقيقة نضيف مدينة إلى مدينتنا، وجهة خامسة إلى الجهات التي نعرفها، ونفتح نافذة جديدة داخل عقولنا، تماماً كما حصل مع أطفال ونساء ورجال تلك القرية، حيث لم تعد قبيلتهم هي كل العالم، ولم تعد تلامس السماء، أخيراً اقتنعوا بأن المطر يأتي من السماء ولا يصعد من الأرض.
كلنا في هذه الحياة يشبه أهل تلك القبيلة، حتى اللحظة التي يقرر فيها أن يفتح نوافذ عقله وقلبه ليرى ماذا يوجد في الخارج، وكلما فتحنا واحدة اكتشفنا قدرتنا على رؤية المزيد، وعلى إطلاق تلك الشهقة دون خجل، واكتشفنا مدى اتساع اللغة ومدى قدرتها على تقديم العالم الحقيقي لنا، ومدى شغفنا باكتشاف العالم كالأطفال بأطراف قلوبنا!
إن ذاتنا نافذة، واللغة نافذة، المعرفة والحكمة والآخرون والحب والسفر نوافذ أخرى، وحين نطل من نافذة جديدة ليس بالضرورة أن تقع أعيننا على مناظر تهواها النفس، النافذة الجديدة تحيلنا حتماً إلى مشهد آخر وقراءة أخرى للحياة والواقع والقناعات وكل ما يحيط بنا، ومن ثم تفكيكه وفهمه جيداً وقبوله على بيّنة!
يتوافر لنا كجيل ما لم يتوافر لجيل سابق من النوافذ، لعل أهمها التكنولوجيا والكتب ووسائل التواصل مع الثقافات والآخرين، لكن كثيرين لا يفتحون نوافذهم، فيبقون حبيسي أوهام تلك القبيلة البعيدة المعلّقة في أقصى الجبال، معتقدين بأن المطر يصعد إلى السماء، وأنهم هم كل العالم.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن البيان