بقلم -ناصر الظاهري
هناك مدن فيها شيء من الروح، وسكينة النفس، فيها شيء من تسابيح العارفين، ودراوشة الوقت، مدن بعينها ووحدها من تناديك لتعطر يدك بمسك الصوفية ومريدي الخير والذكر الذي لا ينتهي، القيروان مثلاً، تلك المدينة المتدثرة بالتاريخ، المضمخة بعرق الفاتحين، حين كان الفتح نوراً، وهداية وسَوق معارف، ومعنى للتعايش، ورقي الإنسان، من يوم ذاك الدخول ستعمر البلاد، وستبتنى مدينة فيها ذاك التزاوج الجميل بين عمارة البربر التي عرفت بأن تحوط المكان كطوق من الضلوع وما جلبه العرب المسلمون معهم من رحابة للمكان، وسعة في المجالس، وذلك التشكيل الهندسي لخطوط وحسابات ستتجلى فيما بعد لتعطي ذاك الطابع المتميز للحضارة الإسلامية أينما كان.
مراكش مثلاً، مدينة لا تغفو إلا على ذكر، هي المحصنة برجالها الأتقياء، ينسل لك أذانها الفجري من بين تلك البيوت المساكنة للتاريخ حين بدأ، مدينة السلاطين حين تكون الحياة زهواً، وملاذ النساك حين تجري دموع التقوى في المحاجر، تأخذك لدفء أمكنتها، وعبق رائحتها، فلا تريد منك إلا أن تنتشي، إما شكراً أو ذكراً أو عطراً.
غير بعيد عن مراكش، تسلمك هذه المدينة المسورة بشواهد الرجال، لأختيها فاس ومكناس، وهما مدينتان فتحتا أذرعهما للخيول المنكسرة من العدوة الأخرى، للأفواج التي بكت حسرة العربي الأخيرة هناك، للمورويسكيين بعد أن زفروا ندامة الوقت وحسافة الزمان على أيام كانت في الأندلس الرطيب، تجوس فيهما بأقدام الطهر، تدخلهما مبسملاً، وبالرجل اليمين، تشعرانك بأنهما امتداد لقرطبة وغرناطة، وما فعل الأولون، حين كانوا أطهاراً ويصلون، مدينتان لا تجزع إنْ تعلق قلبك بهما، لأنهما جزء من قلب كل عاشق يعرف الحب والهوى، وتقاسيم الوجد والنوى.
تعبر البحر، لا وعثاء ولا تعب، تحط بك عصا الترحال زائراً وتائباً نحو غرناطة الحمراء، فلا قدم تشدك، ولا أرضاً تقلك، بعض المدن تخل بتوازن العاقل المرتحل، غرناطة مثلاً، ما أجمل ليلها، ونسائم فجرها، يظل يتبعك الغناء الغجري في غبشها، ليسلمك إلى زوايا فيها، تجد نفسك هناك، فتقول: «كأني ولدت هنا.. أو ارتحل قومي من هنا»، غرناطة تحوطك بنسيج غريب، تريد أن تمسك طرفاً، فينسل طرف، فلا تدري لم ظل حلم طفولي يطرق ذاكرتك الطريّة، هذه الأندلس.. ليتك كنت هنا، فيتملكك ذاك الندم الذي لا تعرف من أين هبط، فيخرج ذلك «التوهي» من الصدر كحريق لا يقبل الانطفاء.
تلك المدن التاريخية كشعاع من نور بعيد، تمسك بأطرافك، لا تجعلك تمر دون أن تصرّ لك شيئاً منها فيك، هي مدن تتنازع قلبك التقي، وتتوزع طرق القدم، فإما منها، وإما إليها، حينها فقط يستكين الشيخ الفاني المتفاني، ويتمنى نومة تحت ظل أشجارها، يتوسد ثراها البارد، ممسكاً بخيط مسبحته، شاعلاً رأسه اليقظ بخواتيم الذكر، وجلال الشعر، وذاك البيان الذي فيه العلم والسحر.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد