تتذكرهم ولا يتذكرونها

تتذكرهم.. ولا يتذكرونها

تتذكرهم.. ولا يتذكرونها

 صوت الإمارات -

تتذكرهم ولا يتذكرونها

بقلم - ناصر الظاهري


بعد ليلة اكتست بالأبيض، ومباراة رمادية هدّت الحيل كنت أبحث عن مقعد خشبي فارغ في الحديقة العامة، فقط لكي أبثّه حزناً، وثقلاً على القلب، لأستريح، فقد تعودت أن أراه في فصل الخريف الماطر، والشتاء الثلجي، في فصل الربيع حيث يفرح برائحة الزهور ولونها، مشهد لا يدعني أمر أمامه سراعاً، ولا يدع «كاميرتي» في حقيبتها، لأن للمقاعد المسنة حضورها، قد لا يتذكّرونها، لكنها تتذكر كل العابرين:

- العجوز التي كانت تحرص أن لا يسبقها إليه أحد، تجلس منتظرة الشمس في أول دفئها وإشراقتها، تجلس محتضنة حقيبتها الأنيقة، تناظر الناس، تقضي الساعات التي تمر بغير فرح حقيقي، وقبل أن تودعه تظهر من حقيبتها زجاجة ماء صغيرة، وتتناول حبات من أدوية مختلفة، وتغادر عل يوم جديد آخر يجمعها به.

- عاشقان لاذا به، وهما يوشوشان بعضهما كطائري حمام، يسترخيان في زهو عمرهما، ويبثان بعضهما أشواقاً لا تنقطع، قد يغنيان من نشوتهما، قد يحفران عليه اسميهما وسط رسمة قلب يتمنيان أن ينبض بحرارتهما ولقائهما وذكرياتهما.

- مسنان في خريف العمر، يتدثران بملابس ظلا مخلصين لها، وعكازة للرجل العجوز الذي يتمنى أن يودع الحياة قبل زوجته لكي لا يبكيها وحده، ولا يتعذب بفراقها بعد رحلة عمر امتدت طويلاً، ولهما ذكريات محفورة على المقعد.

- سكير الحي المخمور بالحياة وربما بخيانة فتت كبده، يلوذ بالمقعد حين يريد أن ينام، تاركاً زجاجته شبه الفارغة تحته، وحقيبة شبه خاوية تختصر حياته، يتمدد عليه ليصحو من غيبوبته الدائمة، وقد يتذكر من عبثت بدنياه.

- مهاجر فقير حتى العظم، يجلس عليه ليكتب رسالة قد لا تصل لبلده البعيد، ليؤكد لأهله أنه ما زال حياً، ولكن لا يرزق، وقد يسأل هل ما زالت حبيبته تنتظره بالوفاء؟ وهل خف سعال الأم العجوز؟ وهل الأب مازال عاطلاً، عاجزاً؟ وكيف هن الأخوات، هل ما زلن تحت ستر البيت؟

- طالبات عائدات بحقائبهن المدرسية، وقميص الثانوية الأبيض، يثرثرن بأحلام العمر، ويتهامسن عن مغنٍ تشتعل صوره في لوحات الإعلانات، يصمتن ليسمعن أغاني عاطفية عبر سماعات الأذن، يتنهدن، ثم يتذكرن الساعة، فيجفلن راكضات يسابقن بعضهن، وصراخهن بدأ يعطي طعماً للأنوثة.

- فنان يظهر من حقيبته الجلدية دفتراً أبيض، ويبدأ يستدعي خطوطاً وألواناً وسط دخان من سيجارته يكاد لا ينطفئ، يبدل وضع رجليه مراراً على ذلك المقعد، تضيء داخله سعادة تعوّد عليها حين ينجز ما يفرحه، فجأة أصبحت تلك الأوراق البيضاء تدب فيها ألوان الحياة.

- كاتب يتأمل الوجوه، والملابس ودبيب الأقدام، يرى من خلال دمع يترقرق في العين لا يدري أهو فرح أو شيء من كمد: مطلقة تدفع عربة طفلها الوحيد.. عازف يبكّي أوتار كمانه.. وعجوزان مدبران يعدان الخطوات.. ومقعد وحيد وبعيد تحرسه ظلال الحديقة!

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

نقلا عن صحيفة الأتحاد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تتذكرهم ولا يتذكرونها تتذكرهم ولا يتذكرونها



GMT 21:27 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

قصة عِبَارة تشبه الخنجر

GMT 21:21 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

المرأة ونظرية المتبرجة تستاهل

GMT 21:17 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

«تكوين»

GMT 21:10 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

هل يعاقب فيفا إسرائيل أم يكون «فيفى»؟!

GMT 21:06 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

العالم عند مفترق طرق

GMT 11:57 2020 الإثنين ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

حظك اليوم برج السرطان الأثنين 30 تشرين الثاني / نوفمبر2020

GMT 13:56 2017 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

شيماء مصطفى تُقدّم حقائب من الجلد الطبيعي لعشّاق التميُّز

GMT 03:03 2019 الخميس ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

مهاجم إنتر يخضع لعملية جراحية ناجحة في ركبته اليمنى

GMT 18:13 2019 الإثنين ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

الأكسسوارات المنزلية جواهر تثمّن المشهد الزخرفي

GMT 08:06 2019 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

محمد بن زايد يستقبل وفداً من البرلمان العربي

GMT 09:27 2019 الأحد ,08 أيلول / سبتمبر

طريقة سهلة وبسيطة لعمل تتبيلة السمك المقلي

GMT 23:45 2018 الإثنين ,22 تشرين الأول / أكتوبر

مجموعة لويس فويتون Louis Vuitton لربيع 2019

GMT 13:30 2018 الإثنين ,23 تموز / يوليو

الماس الأبيض يزيّن أصابعك بفخامة ورقي

GMT 13:15 2013 الإثنين ,16 كانون الأول / ديسمبر

بدء اجتماعات اللجنة العربية للإعلام الإلكتروني في القاهرة
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates