بقلم : ناصر الظاهري
أحب أن أتذكرها بزهو المطر، حين يزاغي الريح، وحين ينهمر، مخبئاً بهجة الطفولة وشغبها، صبيب «المرازيب»، وابتهالات بيوت الطين وارتواء فرحها، أحب أن أتذكرها كلما علق بدوي سِعّنه على كتفه، واعتلى ظهر شداد بعيره، وقال للصحراء: «ما دام نجم سهيل هادياً، وأنا للإبل حادياً.. فكل المفازات لآلٍ وسراب وماء».
أحب أن أتذكرها حين تدنو بنات نعش فوق رؤوس الجبال، وحين ترّعش خناجرها، وسيوفها الرجال، حين يدخل أحدهم «اليولة» بمحزم من رصاص، ويخرج منها فارغاً، يتبع غيّه وهواه، أتذكرها، وأتذكر ظلها البارد حين جاءت كبيرة وغالي مسيرها تسأل عن بيت لنا قديم في المعترض، لتشكر وتسأل عن فتى كان يومها غائباً تناديه المدن في أحد صيوفها، كم حزنت يومها، وكم فرحت، حزنت لأني لم أكن قريباً في فلج المعترض، ولا قرب ظل نخيله ذاك الصيف، وفرحت بقدم السعد التي تعبت وجاءت تسأل وتشكر، والواجب عليّ الشكر، ودوام السؤال، ولازماً عليّ أن أتعنى لها، ولو حافي القدم، لكنها كانت كبيرة النفس، وجليلة الحضور، لذا أتذكرها، وأحب أن أتذكرها كلما سمعت العَوَش والعوش والعاش وعائشة وعوشة كصنو لاسم الأم ورديفه، وأتذكر لغتها الصافية كمياه أفلاج العين، المنسابة كخيوط من محبة ونور، جذلة عبارتها، رقيقاً وصفها، حتى يكاد أن يتسرب لك شعرها مع نسمة الهواء، ومع ضروب الهوى:
القول من تكثر هروجه هذيري ما قلّ دلّ وتفهم الناس معناه
ننظم عقوده في سلوك الحريري من الذهب خوفٍ من الخيط يشّعاه
لامرأة من وقت.. وسحر وهوى، كان يمكن لها أن تخط برجلها، وأثر حناء قدمها على الرمل، وتذهب.. كان يمكن أن تكتفي بظل باب البيت، ولا تقارع بيوت الشعر ونحورها، وتذهب.. كان يمكن لها أن تُسكّن وهج الحروف في صدرها، ولا تبالي بما يملأ عليها من سحر الكلمات، وتمضي، كان يمكن لها أن تكون امرأة عاشت، ثم مضت، كما تمضي كثير من النساء، متدثرات بما قيل إنه كُتب لهن، لكنها جالدت لتكون «عائشة»، هنا.. وهناك، ويكون لعمرها المديد كبير الصدى، تهزج به رياح الخليج، وتردده أطراف الجزيرة ورمالها، ولم تكتف بما كان يمكن لها، بل ما كانت عليه!
إنت فرضي لي مْصَلّنه وأنت وردي وأنت أتلافي
يعل يود السحب لمْدّنه لي برقها بات رفافي
والرعود مسَوّية حَنّة هَلّ وأسقى ذيك الأطرافي
لين يَنبِتّ وين واطْنّه بالزهور إمعَزّل الجافي
بو خدود فُوعَة إسْمنّه يسفِرِنّ من شيلٍ إرِهافي
تلك عوشة الشاعرة، فتاة العرب، عوشة السويدي، شاعرة الجزيرة، تعددت الأسماء والصفات، والشخص واحد: غير أنها عندنا نشرة غالية.. وبنديرة عالية، لروحها السكينة والطمأنينة، وللوطن العزاء، فبقدر ما يكون المرء كبيراً، يتسع حزن الوطن عليه، وعوشة كانت كذلك دوماً.. وأبداً.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
المصدر : جريدة الاتحاد