بقلم : ناصر الظاهري
صديق آخر هو أول من علمني أن أمسك بتلك العصي، وأتخلى عن التناول باليمين، خاصة في حضرة طاولة عائلية اجتهدت زوجته في تحضيرها، لكن لا أخرج من عنده إلا وصدر الكندورة العربية والطربوشة عرضة للتلوث البيئي، ولا يمكن أن تخطو بها خطوتين إلا إلى الـ «دوبي» مباشرة، وهو الأمر نفسه الذي حدث معه حينما عزمته على جلسة في خيمة عربية، وتربع، ووضعت الصواني أمامه، وقلنا له: أخمس.. وأضرب بيمينك، يومها ظلينا ننقي العيش من على ذلك الصرود حتى عجزنا، بالطبع لم أحدثه عن أكل «أهل نْعَيم»، وأنهم لا يشَعّون العيش قدامهم أثناء أكلهم، لأنه سيرى فيها مهارة لا لزوم لها، وقد حاول أن يقنعنا أن الأكل بالعصي الصينية أسرع وأكثر شبعاً، ولا يمكن أن تنثر قدامك حبة رز.
صديق صيني آخر كنت أصر أن ألبي دعوته في مناسبة السنة الصينية، وأعزمه في ليالي رمضان، فقد كان جدوده مسلمين، وهو يحمل اسمين، اسم مدني واسم عائلي، والغالب في الاسم المدني ذكر الجد الصيني الذي كان قبل الميلاد أولاً ثم اسمه، أما الاسم العائلي أو الطائفي فقد كان على اسم أحد من الصحابة، ولكن لو ناديته به، فقد يستغرب للحظات، ثم يتذكر أسلافه ليجيبك، هذا الصديق دعوته مرة لأذوقه من شوي التنور في عيد الأضحى في العين، وكنا جلوساً في المبرز، وأمامنا شاشة التلفزيون العريضة، ناقلة لنا شعائر الحج والصلاة في الحرم، فاقشعر بدني لتلك الجموع المصلية حاضراً في الصحن المكي، وجموع الطائفين، فقلت له: هل تعلم يا صديقي أن حول هذا الحرم هناك مليوني مسلم يطوف ويصلي، فلم يعرني أي التفاتة أو انتباهة، فاعتدلت في جلستي، وقلتها بلغة عربية فصيحة، وبصوت مسرحي أستخدمه أحياناً عند اللزوم، وإذا ما اقتضى الأمر ذلك، مع الحرص على الوقوف عند السكون أو الشَدّة، ووضوح مخارج الألفاظ، خاصة عند ذكر رقم المليوني مسلم، لكن الصديق كان ساهياً، ويدمدم، ولا أعرف ما في خاطره، فقلت ربما استشعر الموقف، ويقرأ من محفوظات الصدور أو يدعو لجده الأول الذي يحمل اسم أحد الصحابة، انتظرت طويلاً، وغير الموضوع، وتحدث في شأن آخر، بعدها أدركت أن المليوني نسمة لا تعني للصيني أي دهشة، وكأنه دخل محطة قطار متجهاً من بكين العاصمة الجديدة إلى «تشيان» العاصمة القديمة.
صديق آخر صيني ظريف، زارني مرة في مكتبي، أيام كان التدخين في الأماكن العامة ميزة، وحقاً لا يمكنك أن تعترض عليه، قبل الحجر عليهم وعزلهم في أكشاك زجاجية، فسألني: لم أعهدك تدخن، ومكتبك أشبه بفرن، فقلت له: هذا بسبب هؤلاء الصحفيين الداخلين والخارجين يسبقهم أو يتبعهم دخان سجائرهم، وأنا لدي حساسية من رائحتها، لكن ما العمل، فنحن غير المدخنين أقلية في هذا المكان، ومضطرون أن نملأ صدورنا بتدخينهم السالب، فضحك وقال: سأكتب لك باللغة الصينية «ممنوع التدخين»، وعلقها على باب مكتبك، وكل واحد سيدخل سيسأل عن معنى المكتوب على الباب، فتخبره بأنها عبارة «ممنوع التدخين»، فسيخجل، ويطفئ سيجارته، استحسنت الفكرة، ومشى الحال أسبوعاً، بعدها كان كل واحد يدخل عليّ المكتب أول ما يشير ضاحكاً للعبارة الصينية ولمعناها «ممنوع التدخين»، وبعضهم يحضر آخرين ليريهم إياها، لكي لا يستغربوا منها إن دخلوا عليّ!
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
المصدر : جريدة الاتحاد