بقلم : ناصر الظاهري
في عز تلك الأيام الجميلة لنا، والخوالي عليهم، قررت الذهاب من فيينا إلى بودابست، ومن ثم عواصم أخرى في أوروبا الشرقية مثل وارسو وبوخارست، كانت رحلة جميلة بكل المقاييس بدءاً من المناظر الخلابة التي تلتصق بنافذة الحافلة طوال الطريق الذي يتبع نهر الدانوب الأزرق، والذي خلده الموسيقار «يوهان شترواس» في واحدة من روائعه الموسيقية، وصلنا بودابست مع صديقي وصرفنا 300 دولار، وهو الحد المسموح لنا بصرفه عند الحدود، وبقينا ثلاثة أيام نحاول أن نصرف ذلك المبلغ البسيط، لكنه لم يخلص أبداً حتى أنه اضطررنا مرة أن نفطر على سمك، ونتغدى على سمك، واشترينا أشياء تذكارية، وقمنا برحلات داخلية، وبقي منها مائة وعشرون دولاراً!
تعجبنا من أمر الدولار، وما يفعل من صنيع في مثل هذه البلدان، وإن ضبط مواطن منهم، وفي يده تلك العملة الخضراء، الصعبة، فالتهمة واضحة، وجاهزة، الاتجار في السوق السوداء، ومعناه اللعب مع الحكومة، والتخابر مع جهة أجنبية، وكلاهما يضر بالوطن، والعقوبة إما سجن مؤبد وأشغال شاقة لا تنتهي أو حز الرقبة!
وحين ذهبنا للتسوق في المجمعات التجارية الحكومية، والتي ما زال فيها المحاسب يحسب بطريقة بدائية على آلة من الخرز أو الخشب، مثلما يفعل أي مخزنجي، موكلة له مهمة التصرف بالغلال، وجدنا أن بدلة الرجل لا تزيد على 20 دولاراً، وبطريقة المحاسبة العجوز ثلاث ضربات من الخرز الفوقية، ناقص واحدة من السفلية، وتقول لك رقماً لا تعرفه هو لصالحك بالتأكيد، ولا يريد مفاصلة، فهو أقرب للـ «بلاش».
فقط ما كان يحزنني في مثل تلك المدينة، أنه إذا ما خيَّم الليل، تدثرت المدينة في ألحفتها ونامت مبكراً، ليبقى طائر الليل وحيداً، ضجراً، يتململ في فراشه في الفندق البارد، ثم هناك سحابة من الكآبة لا يمكن أن تفوت عن ناظرك للموظفين المتعبين، وهم عائدون في الحافلات العامة من أمكنتهم دون جدوى، ودون أي بريق في العين يوحي بحلم جميل في الغد، لا شيء غير رائحة ملابس العمل المضني، وزجاجة من شراب محلي قد تؤنس الليل، وقد تطوف به نحو ملذات، غير الخبز كفاف اليوم، وغير البطاطا التي تزرعها تعاونيات ينخرها فساد المدير العام ومعاونته، والرجل عين الحزب!
بودابست تجذبني كمدينة تاريخية، وهي اتحاد مدينتين بودا وبست، والذي يعود لعام 1873، بودا تقع على الضفة الشرقية من نهر الدانوب، وبست تقع على الضفة الغربية، تربطهما جسور ثلاثة، هي جسر «إليزابيث» و«الحرية» و«تشين بريدج».
هنغاريا أو المجر سابقاً تأهلت «أوروبياً» بسرعة أكثر عن غيرها من دول الكتلة الشرقية، وهي اليوم لا تكفيها، ولا تسد رحلتها ثلاثة آلاف دولار!