بقلم -ناصر الظاهري
ربما هي رحلة بلا تذكرة ولا حقيبة سفر، هي رحلة من رحلات المدارس التي كنّا نفرح حين نقوم بها في ذلك الباص المدرسي شبه المتهالك، وندفع ثمنها دراهم معدودة، ويظل الأستاذ ينبه علينا قبل الرحلة بأيام: «خليكم مع بعض يا أولاد، لا تفترقوا، وكل واحد يأخذ باله من زميله»، في ذلك الباص الذي سيحرص سائقه «أحمد الصومالي» على أن يعتني به بطريقة مبالغ فيها، وسيصرخ بصوته الحار، ويُحمِّر عينيه على أي طالب يقترب من الباص أو يحاول أن يوسخه بطريقة صبيانية، وسيحرص أستاذنا «محمود الفلسطيني» والذي لم ير إلا أبوظبي وعمّان في حياته على أن يختار الكرسي الأمامي بجانب السائق، وسيظل محتفظاً بذلك الميكروفون الكشفي في يديه، كجزء من عهدة وقّع عليها أمام المدير، وظل فرحاً وهو ينادي من خلاله على الطلبة حتى ولو كانوا غير بعيدين عنه.
سيمتلئ الباص وسيتدافع الطلبة على اختيار المقاعد الخلفية، لكونها بعيدة عن نظر الأستاذ وعرّيف الصف، وسيرتد كثيرون ويكتفون بالجلوس في الصفوف الأمامية، فالطلبة المشاغبون والذين أكبر منا كانوا مستعدين لأن يتعاركوا على تلك المقاعد، لأنها المكان الآمن للمدخنين، في وسط تلك الحافلة سيعتزل مطرب الرحلة وفرقته النحاسية، لكن بعد نصف ساعة من المسير سيتحلق حولهم كل الطلبة، والكل يريد أن يجرب صوته، خاصة أولئك الذين بدؤوا في سن البلوغ، واخشوشنت أصواتهم.
مقصف المدرسة سيعد لنا «سندويتشات» وعصير برتقال في علب كرتونية، جل الطلبة كانوا يفضلون عليها «غراش الكولا»، وسيحمل الكثير منا أكياساً بلاستيكية فيها «خبزة عليها سمن وسكر» أو سيملأ البعض منا جيب كندورته بـ«يقط»، وسننطلق قبيل الصبح متجهين من أبوظبي إلى دبي، في تلك الأيام كان الباص يقطع المسافة في قرابة ثلاث ساعات ويزيد، ومع سائقنا أحمد الحار دائماً، والذي غضبه على أرنبة أنفه، ستزيد ساعة أو أكثر، دون حسبة التوقف ليستريح السائق والمعيوني المواطن، ويلطم أحمد كأس شاي أحمر كبيراً، ويدخن صلبين سجائر، ويكتفي المعيوني المواطن بأن يغرّ نفسه ثلاثة فناجين قهوة عربية، و«غزّ سح»، ويعمر مدواخه، ويشفط في كل مرة ثلاث شفطات متتابعات أو يتوقف «دريول الباص» عند أحد «الولوف» المائية الموزعة على جانب الطريق ليبرّد «ماكينة الباص»، غير تعلث بعض الطلبة بغية «هرج الماء» في ذلك السيح الوسيع أو تحت رمثة، سينقطع نسلها منذ أن دنسها البعض بذلك الخيط المائي الساخن المتدفق.
سيختل توازن مدرسنا ومنسق الرحلة منذ خروجنا من أبوظبي، وسيظل يسأل الطلبة عن الربع الخالي، وعن قطّاع الطرق، وعن الذئاب الرملية، وسيتفنن الطلبة في الوصف والمبالغة وإرهاب الأستاذ محمود، والأستاذ مصطفى المصري، مدرس الرياضة الذي انضم لرحلتنا بعد إلحاح من المدير نفسه، ولكون معظم الطلبة يحبونه، لكنه ما إن سمع الربع الخالي والموت عطشاً وذئاب الصحراء وقطاع الطرق حتى تبدل حاله، وأسرّ لنا أكثر من مرة حالفاً: «والله ما كنت عايز أروح الرحلة المهببة دي، الله يجازي من كان السبب».
تقلا عن الاتحاد
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع