بقلم : ناصر الظاهري
في تلك المدن الكثيرة كانت هناك نساء كثيرات، صديقات، صادقات، عابرات، وفيات، جاحدات، بريئات، مخادعات، ليس هناك.. مثل تلك المغنية اليوغسلافية التي تدعوك لعيد ميلادها، وتقطع مئات الأميال لتحظى بتلك الليلة في شوارع بلغراد ومينائها النهري والمشي حتى بزوغ الفجر، وليس هناك.. مثل تلك الأثيوبية التي تترك لك بيتها والجلوس مع أسرتها وكأنك واحد منها، تسندك حين تسقط بك القدم، وليس هناك.. مثل تلك المحامية التي تضطرّ أن تجلس معها في قضيتها الشخصية في المحاكم الفرنسية، تدافع هي عن الناس، ولا تعرف أن تدافع عن نفسها، ليس هناك.. مثل طالبات الصفوف في مقاعد الدراسة الباريسية، ولا مثل من حملت أوزارك ونجاستك وأثقالك وقالت هيّت لك.
في هذه المدن الكثيرة.. كان هناك أصدقاء حقيقيون، مازالت صناديق البريد تشعر بدفء حروفهم، ومازلت تفرح من قلبك إن التقيتهم مرة في مدينة من هذه المدن.
بعض المدن ترتبط بذهنك بأشخاص معينين، فلا يمكن أن تزور عمان، ولا تعرج على أعمدتها أو القاهرة بأصدقائها الكثر، أو مدن المغرب بالجميلين في تلك المدن المختلفة، أو تمر ببيروت من غير أن ترى قناديلها في الثقافة والفن والسياسة.
بعض المدن خفيفة تشعر أنك لابد وأن تلبس من أجلها قميصاً صيفياً، بعضها لا بد وأن تتدثر بالملابس الشتائية الغلاظ، بعض المدن حين تدخلها تشعر أنك ضعيف، بعضها تشعر أنك صديق، بعضها تشعر أنك مستلب، وبعضها الآخر تشعر أنك مغبون ولا لك حق حتى البقاء فيها، بعضها تشعرك بالضآلة من مبانيها وضجيج أنوارها وقسوة ناسها، بعضها تشعرك بالفطرة والبدائية وبطين الأرض البكر.
زرت مدناً كثيرة مقدسة، وزرت مساجد تاريخية وكنائس قديمة ومعابد لمختلف الأديان والملل والنحل، لأنها تلقى هوى في النفس، واهتماماً كبيراً منذ الصغر، هو جزء من فضول المعرفة وفك طلسم الأسئلة الوجودية الكثيرة، والتي تتبعنا منذ معرفة النون والقلم وما يسطرون، وحتى إدراك اليقين والمعرفة النورانية، لكن ليس مثل فجر مكي شعرت فيه ذات مرة بهبوب ريح باردة وساكنة، وغمرتني طمأنينة حد كدت أطير، هي من المرات القليلة والتي لا تتكرر إلا مرة واحدة، يومها شعرت بالفرح والحظ والحظوة وبقرب من عطايا السماء.
اليوم.. هناك أماكن أتمنى أن أزورها، وما زلت أحلم بها، أماكن بعيدة وأخرى قريبة، هناك أماكن في بعض المدن تمنيت أن أقضي فيها أيام تقاعدي، أو تبقى محطات ثابتة في أيام خريف العمر القادمة، بيروت مثلاً، باريس مثلاً، مراكش مثلاً، بورصة مثلاً، حيث أشجار الزيتون، وزرقة بحر من بعيد، واشتهاءات رجل كلّ من الأسفار، وآن له أن يرتاح بجانب ظله.
نقلا عن الاتحاد