بقلم : ناصر الظاهري
نمت مرة في حديقة عامة في اللاذقية، وسكنت مرة في منزل خرافي على نغم موج البحر، جربت أكل الشعوب وعاداتها، استطعمت بعضها وأكثرها، أقلها هو ما عافته نفسي، جلست في بيت عائلة إثيوبية حين انقطع الحال، وسكنت عند أسرة إنجليزية، وأسرة فرنسية، وبيوت الطلبة، وفنادق فخمة للغاية.
أنا هنا لا أكتب.. فقط أحاول أن أتذكر ما مرّ معي خلال تلك الأسفار، أجمل أكلة أكلتها في جنوب فرنسا في «أكس بروفانس» عند عجوز يهودية مغاربية، كانت تقدم لي فطور شهر رمضان بيدها، وأسوأ أكلة أكلتها على مركب في مدينة هونج كونج، يومها رأيت كيف يكسرون مخ القرد.
لم تكن عندي يوماً مشكلة في تذبذب الحال، واختلاف مستوى الأكل، والمركب، والمنام، لكنني كنت أحرص على أن أجد مناماً مريحاً آخر الليل، وآمناً، وأجد حماماً نظيفاً يجعلني أغفو في مسبحه، وأستمتع ببرودة سيراميكه وبلاطه اللامع ورائحة فوطه.
أحببت مدن البحر الأبيض المتوسط لدرجة العشق، أعشق المدن التاريخية، غرامي إسبانيا، وليتني عشت عصرها الأندلسي، مدن التاريخ أشعر أنها كالجدات الدافئات أو كالأمهات الطاهرات، أكره المدن الزجاجية والتي يمكن أن تبيعك أي شيء حتى روحها أو مخدع ضناها.
في هذه المدن الكثيرة كانت هناك نساء كثيرات، صادقات، عابرات، وفيات، جاحدات، بريئات، مخادعات، ليس هناك.. مثل تلك المغنية اليوغسلافية التي تدعوك لعيد ميلادها وتقطع مئات الأميال لتحظى بتلك الليلة في شوارع بلغراد ومينائها النهري والمشي حتى بزوغ الفجر، وليس هناك.. مثل تلك الأثيوبية التي تترك لك بيتها والجلوس مع أسرتها وكأنك واحد منها، تسندك حين تسقط بك القدم، وليس هناك.. مثل تلك المحامية التي تضطرّ أن تجلس معها في قضيتها الشخصية، تدافع هي عن الناس، ولا تعرف أن تدافع عن نفسها، ليس هناك.. مثل طالبات الصفوف في مقاعد الدراسة الباريسية، ولا مثل من حملت أوزارك.
في المدن الكثيرة.. كان هناك أصدقاء حقيقيون، ما زالت صناديق البريد تشعر بدفء حروفهم، وما زلت تفرح من قلبك إن التقيتهم مرة في مدينة من هذه المدن.
زرت مدناً كثيرة مقدسة، وزرت مساجد تاريخية وكنائس قديمة، وبيع للطوائف اليهودية، ومعابد لمختلف الأديان والملل والنحل، لأنها تلقى هوى في النفس، واهتماماً كبيراً منذ الصغر، هي من فضول المعرفة وفك طلسم الأسئلة الوجودية الكثيرة والتي تتبعنا منذ معرفة النون والقلم وما يسطرون، وحتى إدراك اليقين والمعرفة النورانية، لكن ليس مثل فجر مكي شعرت فيه ذات مرة بهبوب ريح باردة وساكنة، وغمرتني طمأنينة الحياة، لم أنس ذلك الفجر المكي، ويتراءى لي بين الحين والحين، وكأنه هبة من السماء هبطت، وسكنت الفؤاد!