بقلم : ناصر الظاهري
قضيت ثلاثة أسابيع من المتعة الحقيقية، والسفر المعرفي، والركض الجميل خلف اقتناص لقطات تصويرية، واصطحاب أناس وثقافات، وشهوة الأكل المختلف، في سنغافورة أعجبتني المعروضات والبضائع الاستهلاكية والنظافة والنظام، فلكل مخالفة ثمنها المادي والاجتماعي، فمن لم تردعه الخمسون دولاراً غرامة رمي عقب السيجارة، عليه أيضاً أن ينظف الشارع العام في نقل تلفزيوني حي ومباشر، ثمة حضور جمعي، متماه في المكان، غير أني لم أشعر بحقيقة الإنسان المنتمي هناك، ثمة شيء من الاصطناع والمعلب والمفبرك المتماسك، لذا صنفتها، وكأنها شركة عالمية كبيرة، لا وطن يغوص عميقاً في تلك الأرض الرخوة.
تايلند الحقيقة الجميلة، وكنز الحضارات والتقاليد، والإرث الضارب في القدم، حيث الإنسان وجد الحياة، ووجد نفسه يجالد ساعاتها، فبحث عن دين يلجم شروره، هناك يمكن أن تتآلف وتتصاحب مع كل الأشياء، رغم شيطنة عاصمتها التي يحسبونها تسكنها «الملائكة» منذ الأزل، بمعنى تسميتها، لكنها مزار للمتع المجبولة عليها النفس البشرية، وحب الدهشة، ولذة التجريب، لتايلند جزر ليت الرجل الحكيم يتخذها محطة لخريف عمره الذي قد يطول في ذلك البرزخ بين كدّ الدنيا، وساعات الاستراحة للقدم المتعبة دون أن يدري.
ماليزيا، هناك حجاب، ولغة معربة منقطة، ومساحات من الاتساع، وجو يتملكني دائماً: صحو المطر، ونظافة الأشياء، والبراءة تغلف الأمكنة، وشجر أخضر من الجنة، ريّان، ويقول ضع رأسك تحت ظلي، وبرودة تربتي، لكن ماليزيا تبقى كطائر أسطوري، لا تعرف متى يفرد جناحيه للمدى، تجدها حيناً متسترة، لكن ريح الصبا تزاغيها، وتجدها مرة مغايرة عن جيرانها، لكن إغواءات الدنيا وما يتطلبه الغريب لقضاء أيام معدودات فيها لها الحضور، ماليزيا لم تكتشف بعد، لأن جيرانها تقاسموا إرثها وأهلها وتربتها الرطبة.
الفلبين، تشعرك أنها مثل باخرة غارقة في المحيط، وجاء بحارة أمريكيون كثر، وأنقذوها، ليحولوها لمطعم راسٍ، يتخالف عليه الليل والنهار، كل أمكنتها تشعر أنها دبقة، رطبة، وثمة مكر فلبيني واضح بالتستر، وتلك الضحكة المواربة، لكن لكي تفرح بالفلبين عليك أن تغادر عاصمتها بعد ثلاثة أيام، لتنعم بأجواء جزرها الكثيرة، والتي تشبه قطعاً منفلتة من الفردوس اختارت زوايا مكوثها الأبدي.
أما هونج كونج، فهي أشبه بـ«بلاتوه أو استوديو» معد لمشهد سينمائي، يمكن أن يقشع ويزال في ثوان، ولا أحد يتأسف عليه، تغلبك فيها المباني الشواهق، وتلك المتاجر المعطرة، والتي حفرتها أصابع جواهري، لم يترك فراغاً للعبث، تغريك واجهات محالها، لكن يسبقك الشك، فهي لم ترث عن الإنجليز «اصنع للأبد»، ولا عن الصينيين التقليد الواضح.
كانت من رحلات العمر التي لا تأسف عليها، غير أن أسفي كان حين أقول لرفاق كل رحلة من تلك الرحلات: «كود باي»! نقلا عن الاتحاد