- لماذا الطين وحده من بين البيوت التي نشعر بدفء شتائها، وبارد صيفها؟ لماذا هي الوحيدة التي تنادينا من بعيد، إن سهت ذاكرة أو باعدت السنون؟ لم نتذكرها، ونتذكر شجرة اللوز التي كانت تظلل مدخل البيت؟ نتذكرها ونتذكر شجرة التين القديمة، تلك التي تشبه العمة في البيت، نتذكر شقوق الجدران، و«نفتة الدبيّ»، ومشاغبات طفولة، وإشعال حريق في «الخبوق»، وتورم خدود الصغار من اللدغ، نتذكر رسائل وقصاصات ورق نطمسها بين لبنتين، هي لبنت الجار التي لا تفك حرفين، كيف كان المطر يفعل ببيوت الطين، كيف يجعلها بذاك اللون الريّان المستكين.. آه ما أحلى بيوت الطين!
***
- مرة.. في أول الستين
كنا لا نعرف بلداً قاب قوسين أو أبعد من العين
لا نعرف بحراً، ولا سفراً، ولا ركوب السفين
جاءنا من الساحل البعيد رجل مسكين
قال لنا: إن لديهم زرعاً ونخلاً وعنباً وطلع وتين
وإنهم هناك يعرفون البحر، ويعشقون السفر، ويركبون السفين
لكنه هنا.. هارباً بكفنه، ساعياً لرزقه، آتياً كالزبين
قلنا له: إننا هنا أهل، أبوابنا مشرّعة، وقلوبنا بيضاء، واللقمة نقسمها على اثنين
اشتغل بتحدير النخل، وصنع السعف، وجلب الماء، وبناء بيوت الطين
ثم باع واشترى، سافر ورجع، واعتزل ببيت جديد، أمين
اتخذ غرفاً فوقها غرف، وصادق نصارى الجيش، وما عاد ذاك المسكين
كانت جيوبه عامرة، ودكاكينه فيها أوراق وأحمال وأرزاق
كان يبيع القهوة والسكر والرز وأكياس الطحين
ومرة.. في الليل، والوجوه أشباح زرقاء، عاجله نصل سكين
مات «المسكين» بين النخل وبيوت الطين
***
- لم كانت تلك البيوت على بساطة بنائها تختزن الدفء والعافية ورائحة الناس، واليوم صارت جدران بيوتنا ملساء، بلا فرح حاضر، وإن غاب عنها صوت الأب، وتبعته الأم حاملة عطرها وطيبها، أصبحت تضيق علينا أو غدت كغرف الفنادق التي سنغادرها قريباً لا محالة، ونّ شاعر يوماً وقال:
«يطري عليّه الوقت لي سار
وأذكر فريجن حوله بيوت
برد الشتاء وزخّ أمطار
ومتدفين بلبس البشوت
شُوفْ الدلال وضَوّ وكّوار
وشيبه رضف بشالن وكوت
غوري زعتر حُوله النار
عن البرودة دوم منعوت
حُوله يمع إكبار وصغار
يتسمعون القول وسكوت
يحكي لهم يوم كان بحّار
ويوم بندروا من صوب غنتوت
واليوم هذا الوقت لي دار
وقت «الرسيفر» وقت «ريموت»
وش بَعْدّ يارن عن اليار
لأول عليه يرد بالصوت
يزقر عليه من صوب ليدار
يا ما حلاها ذيك لبيوت»
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الاتحاد