التجربة السعودية

التجربة السعودية

التجربة السعودية

 صوت الإمارات -

التجربة السعودية

عبد المنعم سعيد
بقلم - عبد المنعم سعيد

ما دفع كثيرًا إلى هذا المقال كان مشهد الوجود السعودى فى مهرجان كان «السينمائى»، حيث كان سعى المملكة لكى تحتل مجالًا مرموقًا فى الخريطة العالمية لفن من الفنون، التى لم يكن متصورًا أن تأتى لها الرياض بكل ما فيها من أضواء ولمعان وبريق.

ومع ذلك فالحقيقة هى أن السعودية آخذة فى تنمية تاريخ فى الفن السينمائى بكل أبعاده الإنتاجية والفنية، وخلال فترة قصيرة كانت متواجدة فى مهرجان «مالمو للسينما العربية» فى السويد، وأكثر من هذا فإن السعودية أقامت مهرجاناتها السينمائية الخاصة، ومع كل مناسبة بات ظاهرًا أن الرصيد السعودى فى ازدياد.

ولعله لم تكن هناك مصادفة بين التواتر على الصعيد السينمائى، والفنى فى عمومه، ووجود السعودية فى مؤتمر «دافوس» للمنتدى الاقتصادى العالمى بثقل كبير يعكس مكانتها ووجودها بين الدول العشرين الأولى اقتصاديًّا فى العالم.

والحقيقة أنه لم يعد هناك مجال عالمى يتعلق بشؤون البشر لا تتواجد فيه السعودية، سواء تعلق بالثورات الرقمية أو ما لحقها من ثورات تكنولوجية، أو بأشكال الاقتصاد المختلفة، بما فيها السياحة والترفيه بأشكاله المختلفة. تغير العمران السعودى، وبات شاملًا للمملكة شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، وبينما كانت «نيوم» قصة، فإنه كانت هناك قصص طويلة قبلها وبعدها. قبل عشر سنوات، لم يكن مثل ذلك شائعًا.

كانت الرواية الشائعة فى الإعلام العالمى عن السعودية أنها البلاد التى لا تقود فيها النساء السيارات؛ وتوجد فيها شرطة خاصة تتعامل مع ممارسة الأخلاق العامة. الآن تغيرت السعودية كثيرًا، بعد أن حدث فيها إصلاح جذرى يقترب من مفهوم الثورة الاجتماعية والاقتصادية، التى حررت الرجل والمرأة بقدر ما حررت الاقتصاد من النفط، مُحقِّقة تزايدًا مُطَّردًا فى نسبة السلع غير البترولية فى الصادرات السعودية.

ولعل التزايد الكبير فى دور الشباب فى المناصب القيادية العليا فى الدولة، وفى قيادة الصحوة الفكرية فى علاقة الدين بالدولة والمجتمع، لفت الأنظار إلى «التجربة السعودية»، الفريدة من نوعها بحكم النقطة التى انطلقت منها إلى النقطة التى وصلت إليها الآن، والمتخيل الوصول إليها قبل نهاية العقد الجارى.

والحقيقة أنه قبل عقد من السنين، لم توجد دولة عربية قدمت معجزة من أى نوع خلال العصر الحديث، فلم توجد داخل العالم العربى اليابان، ولا كوريا الجنوبية، ولا أى من النمور أو الفهود الدولية التى نعرفها.

الدولة العربية الوحيدة التى اقتربت من هذا كانت دولة الإمارات العربية المتحدة، التى خلقت من نموذج دبى تجربة نجحت فى الاقتراب من نموذج سنغافورة، وأن تصبح محط أنظار دول أخرى قريبة وصغيرة مثل قطر التى تحاول الاقتراب منها.

الغالبية العظمى من الدول العربية صارت بعد الاستقلال دولًا ريعية تعتمد على ريع منتج واحد هو النفط والغاز، أو مثل مصر تعتمد على حزمة صغيرة من المنتجات مثل النفط والسياحة وتحويلات العاملين فى الخارج وقناة السويس.

كان الجميع يعتمدون على منتج واحد، أو حزمة صغيرة من المنتجات، وعلى أكتافها قام عقد اجتماعى يقوم على رعاية الدولة العربية لمواطنيها مقابل القبول بنظم سياسية مركزية فى يد فرد أو أسرة أو حزب. وكانت النتيجة توازنًا سياسيًّا واقتصاديًّا مستقرًّا عند الحدود الدنيا، فلا هو يؤدى إلى المجاعة التى عرفتها إفريقيا، ولا هو يؤدى إلى الانطلاق والتفوق الذى عرفته آسيا.

هذا التصور السلبى فى عمومه، والمتواضع فى حدوده، لم يعد عاكسًا للحالة فى العديد من الدول العربية التى بات الإصلاح واحدًا من أهم ردود الفعل للثورات التى قامت فيها، والفوضى التى حلت، والحروب الأهلية التى اندلعت، وجميعها مشاهد وُلدت مع مطلع العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين.

ولكن مع مطلع العقد الثالث فإن الاتجاه الإصلاحى أخذ يثبت أقدامه فى عدد من الدول العربية، ذكرنا منها فى مقال سابق «التجربة الإماراتية» (المصرى اليوم ٢٢ مايو ٢٠٢٢)، التى باتت أكبر وأعلى من النفط، ولديها من الحيوية التجارية والتكنولوجية ما يضعها بالفعل فى مكانة «سنغافورة» الشرق الأوسط، وربما ما هو أكثر.

وكما ذكرت فى هذا المقام من قبل (٢٨ أكتوبر ٢٠١٨) فإن الإصلاح هو حالة وسط ما بين الثورة والمحافظة على الأوضاع على ما هى عليه. ثلاثتها- الإصلاح والثورة والمحافظة- لها علاقة بتغيير المجتمع.

الثوريون يريدونها طفرة كبيرة أو ما سماها «ماوتسى تونج» قفزة كبرى إلى الأمام؛ والمحافظون يرونها مسيرة إلى المجهول وتفجيرًا لطاقات قد تهدم المجتمع، وربما الدولة أيضًا، وحتى تعطى الفرصة لتدخلات أجنبية.

الإصلاحيون- على عكس هؤلاء وأولئك- يريدون التغيير بشدة لأنه جوهر الأمور والطبيعة والتاريخ، ولكنهم يريدونه محسوبًا ومتدرجًا، ويمكن تحمل ما يأتى به من مفاجآت، وما يتمخض عنه من آلام.

وربما لم تكن هناك مصادفة فى أنه فى النصف الثانى من العقد تولدت مجموعة من «الرؤى» العربية التى أخذت من منتصف العقد الثانى حتى نهاية العقد الثالث أو منتصف العقد الرابع حتى يحدث تحول نوعى فى طبيعة ومكانة الدولة العربية.

ولعله من الضرورى هنا أن نُبقى فى الذهن أن هناك فارقًا بين «التاريخ» و«الرؤية» و«الاستراتيجية»؛ الأول هو حالة من آلاف إن لم يكن ملايين المتغيرات المادية والمعنوية التى لا يملك الإنسان التحكم فيها؛ والثانية هى جهد إنسانى لاستشراف المستقبل والسعى للوصول إليه؛ والثالثة هى خطة لاستخدام وسائط بشرية ومادية للوصول إلى أهداف بعينها فى ظل حساب للفرص والمخاطر.

وفى النصف الثانى من العقد بدأت عمليات الإصلاح فى أكثر من دولة عربية شملت مصر والمغرب وتونس والأردن والبحرين؛ أما فى المملكة العربية السعودية فقد كانت أكثر توجهات الإصلاح إثارة لأنها جاءت فى دولة عميقة المحافظة، سلفية ووهابية المذهب، وتقليدية المسلك فى السياسات الداخلية والخارجية.

أفلتت السعودية من الثورات والانقلابات التى جرَت فى المنطقة خلال الخمسينيات والستينيات، كما لم تُصِبْها عواصف «الربيع» العربى المزعوم، ولكن قضية التغيير لم يعد ممكنًا تجنبها، وقد دخلت الدنيا كلها إلى القرن الواحد والعشرين.

«التجربة السعودية»، التى بدأت فى نفس وقت التجربة المصرية فى عام ٢٠١٥، ومثلها وضعت «رؤية ٢٠١٥- ٢٠٣٠»، تستحق الالتفات والدراسة بعد سبع سنوات من نقطة البداية، التى لم يكن فيها التغيير سهلًا ولا بسيطًا، بعد أن واجهته معارك الإرهاب والعنف والتهديد، ولحقت بها «جائحة الكورونا»، ومن بعدها انقلب العالم مع الغزو الروسى لأوكرانيا فى أسوأ أزمة دولية منذ نهاية الحرب الباردة.

لم يكن القدَر رحيمًا، ومع ذلك فإن امتداد جذور الإصلاح إلى أعماق المجتمع والدولة جعل الصمود ممكنًا، وأكثر من ذلك جعل استدامة التغيير متاحة. المؤكد أن السعودية لم تعد كما كانت، ولم تعد أكثر اقترابًا من عصرها، كما أصبحت اليوم، والتجربة هكذا تستحق الكثير من النظر فى التفاصيل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

التجربة السعودية التجربة السعودية



GMT 02:30 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السادة الرؤساء وسيدات الهامش

GMT 02:28 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

«وثائق» عن بعض أمراء المؤمنين (10)

GMT 02:27 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

من يفوز بالطالب: سوق العمل أم التخصص الأكاديمي؟

GMT 02:26 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

روبرت مالي: التغريدة التي تقول كل شيء

GMT 02:24 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السعودية وفشل الضغوط الأميركية

GMT 13:56 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حماسية وجيدة خلال هذا الشهر

GMT 09:22 2020 الأربعاء ,01 تموز / يوليو

أجواء إيجابية لطرح مشاريع تطوير قدراتك العملية

GMT 13:28 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك أجواء حذرة خلال هذا الشهر

GMT 21:40 2019 الأحد ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

يتحدث هذا اليوم عن بداية جديدة في حياتك المهنية

GMT 08:30 2019 الجمعة ,18 تشرين الأول / أكتوبر

طريقة تحضير بان كيك دايت شوفان سهل ومفيد

GMT 14:47 2019 الأربعاء ,19 حزيران / يونيو

فيفي عبده تردّ على منتقدي شكل حواجبها مع رامز جلال

GMT 18:22 2015 السبت ,06 حزيران / يونيو

صدور "حكومة الوفد الأخيرة 1950-1952" لنجوى إسماعيل

GMT 08:05 2015 السبت ,12 كانون الأول / ديسمبر

فلسطين ومفارقات حقوق الإنسان

GMT 08:09 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

"بيجو" تحذر من انها لن تتراجع عن اغلاق مصنع لها

GMT 15:07 2017 الإثنين ,16 تشرين الأول / أكتوبر

أردنية تُنشئ مجموعة إلكترونية لتشجيع المرأة على النجاح

GMT 19:43 2020 الجمعة ,11 أيلول / سبتمبر

زلزال بقوة 4.3 درجة يضرب جزر الكوريل في شرق روسيا

GMT 07:51 2019 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

الجنيه المصري يرتفع أمام الدولار بنسبة 10.3% منذ بداية 2019

GMT 14:09 2019 الإثنين ,21 تشرين الأول / أكتوبر

إليسا تعود لإحياء الحفلات في مصر وتلتقي بجمهورها

GMT 10:49 2019 الثلاثاء ,08 تشرين الأول / أكتوبر

"تويوتا" تعدل أحدث نموذج من سيارتها التي يعشقها الملايين

GMT 06:15 2019 الأحد ,14 إبريل / نيسان

هاني سلامة يفقد الذاكرة في مُسلسله الجديد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates