بقلم : نديم قطيش
انكسرت بين مقتدى الصدر وإيران. من حيث أراد أو لم يرد، ذهب الزعيم الشيعي بعيداً في ركوب موجة الوطنية العراقية، التي كانت قد سبقته بأشواط، على نحو أحلَّ التصادم مكان التمايز في العلاقة بينه وبين طهران. قبل ذلك، لطالما حافظ الصدر على خيوطه مع نظام ولاية الفقيه. هو من زوار إيران الدائمين وممن يحظون فيها بدرجات من التقدير الذي ينطوي على مبالغات شكلية، يجيد الإيرانيون توظيفها، بيد أن «ثورة تشرين» 2019، وتصدر مشهد الحراك العراقي فئة جديدة من النشطاء السياسيين، ممن لا روابط بينهم وبين الأحزاب الدينية، ثم الترحيب الشعبي العلني العارم في صفوفهم، رغم غالبيتهم الشيعية، باغتيال قاسم سليماني (الحكام الإيراني للعراق)، وإفضاء هذا الاغتيال لولادة معادلة حكومية جديدة برئاسة مصطفى الكاظمي، غيَّر الخلطة السياسية لمقتدى الصدر.
خياره الأخير بتشكيل حكومة أغلبية وطنية، بعد انتخابات فاز فيها تياره ونجح بعدها في تشكيل أغلبية برلمانية بالتعاون مع رئيس البرلمان محمد الحلبوسي والحزب الديمقراطي الكردستاني (بارزاني)، قوبل بالرفض القاطع من قبل إيران وجماعتها العراقية المُشكِّلة لغالبية مكونات «الإطار التنسيقي». طوال 11 شهراً، قبل انفجار العلاقة ميدانياً بين أطراف النزاع، أوفدت إيران قائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني أكثر من عشر مرات للتوسط بين المختلفين، وإقناع الصدر بتشكيل حكومة وفاق وطني، تضم كل الأطراف العراقية، وتذوب عملياً نتائج الانتخابات البرلمانية، وتسطو عبر التحاصص على إرادة الناخب العراقي.
وحين فشلت دعوات التوافق والحوار لجأت إيران إلى الكيّ علاجاً. فوجئ الصدر بإعلان المرجع الشيعي المقيم في إيران كاظم الحائري، الذي يقلده الصدريون، اعتزاله موقع المرجعية ودعوته مقلديه لتقليد المرشد علي خامنئي، في خطوة غير مسبوقة في تاريخ «التقليد الشيعي» طوال 1300 سنة. كان والد مقتدى المرجع محمد صادق الصدر قد أوصى أتباعه بتقليد تلميذه الحائري من بعده. لم يكتفِ الحائري بالاعتزال، بل ضمن بيانه نقداً فقهياً سياسياً لمقتدى الصدر واصفاً إياه بالـ«فاقد للاجتهاد»، وغير المؤهل للقيادة الدينية. مثلت خطوة الحائري ذروة سحب البساط من تحت قدمي الصدر، الذي كانت علاقته بالحائري قد بدأت بالتدهور منذ عام 2003، ودخول الصدر الشاب معترك العمل السياسي والميليشياوي عبر جيش المهدي، ثم اصطدامه بالحكومة العراقية برئاسة نوري المالكي وقواتها النظامية بين عامي 2006 و2008.
موقف الحائري بتوقيته ومضمونه لا يقل عن انقلاب ديني على الصدر وما تمثله المدرسة الصدرية في تاريخ الفقه الشيعي وفي الصراع المكتوم حيناً والمعلن أحياناً بين حوزتي قم والنجف على الزعامة الفقهية للمذهب. ولا ننسى أن الحائري، كمرجع عقائدي يسعى ضمناً لدولة دينية مذهبية في العراق على غرار الجمهورية الخمينية، ما عاد قادراً على التسامح مع سلوك الصدر مسلك الوطنية العراقية وخطابها الشعبوي، لا سيما حين صار التصادم بين الصدر وبين إيران هو تصادماً حول الهوية المستقبلية للعراق.
يستحق العراق، بلا شك، رجلاً ممثلاً للوطنية العراقية، بيد أن لنصيب العراقيين رأياً آخر، في أن يصير مقتدى الصدر ممراً إلزامياً للخروج من عباءة الهيمنة الإيرانية؛ لذلك وجب من وجهة نظر إيران الانقلاب عليه، انقلاباً مثلث الأبعاد، بدايته انقلاب الحائري.
أما الانقلاب الثاني فهو مسعى «الإطار التنسيقي» بقيادة نوري المالكي، للتسريع في طي صفحة اعتزال الصدر واستقالة كتلته البرلمانية، من خلال أخذ الحوار الوطني العراقي إلى خلاصات تتيح انعقاد البرلمان وانتخاب رئيس للجمهورية ثم تشكيل حكومة عراقية من دون التوقف عند الموقف الصدري، وهو لو حصل فإنه لن يفضي إلا إلى انفجار الاقتتال مجدداً في عموم العراق.
وأما الانقلاب الثالث، بعد الحائري، وتجاوز الاعتزال الصدري، فهو الإطاحة برمز المرحلة التي افتتحها مقتل قاسم سليماني، وهو رئيس الحكومة العراقية الحالية مصطفى الكاظمي، الذي تنظر إليه إيران بعين الريبة بعد أن وضع إعادة الوصل بين العراق ومحيطه العربي في رأس أولوياته السياسية والوطنية.
ما كان هذا الانقلاب المثلث الأضلاع ممكناً لولا استدراج إيران للصدر إلى الاقتتال الأهلي الشيعي - الشيعي، بوصفه الخط الأحمر الذي يلتقي الجميع عند الحرص على عدم عبوره. في العلن حوصر الصدر بموقف الحائري الذي أدى إلى الاعتزال ثم أعمال العنف في بغداد والبصرة وغيرهما. أما في السر فقد رضخ الصدر، بحسب ما كشفته وكالة رويترز، إلى إنذار حاسم من رأس النجف، المرجع علي السيستاني الذي «بعث برسالة إلى الصدر مفادها أنه إذا لم يوقف العنف فسيضطر السيستاني إلى إصدار بيان يدعو إلى وقف القتال - وهذا من شأنه أن يجعل الصدر يبدو ضعيفاً، كأنه قد تسبب في إراقة الدماء بالعراق».
وقد انضمت واشنطن إلى رعاة الخط الأحمر إياه، من خلال تطابق الموقف الأميركي الداعي إلى الحوار مع الموقف الإيراني، في تجاوز واضح لنتائج الانتخابات. فما جدوى الانتخابات إن كانت إدارة البلاد ستتم كل مرة بالتوافق السياسي، بصرف النظر عن التفويض الشعبي؟! وهذه ليست المرة الأولى التي «تتكاتف» فيها واشنطن مع طهران لتبديد نتائج الانتخابات، بعد أن احتل العراق بهدف تصدير الديمقراطية! قبل الصدر، وفي عام 2009 انحاز نائب الرئيس الأميركي يومها جو بايدن، ومستشاره للأمن القومي أنتوني بلينكن، للمالكي في رئاسة الحكومة، على حساب إياد علاوي الفائز في الانتخابات!! عام 2009 كانت واشنطن تغازل إيران لأنها كانت تطمح لتنظيم انسحابها من العراق وتوقيع اتفاق استراتيجي مع حكومة بغداد. واليوم تغازل إيران لأن الهدف الوصول إلى اتفاق نووي. وفي الحالتين لا يبدو العراق ومستقبله السياسي مهماً في حسابات البيت الأبيض.
من غير المعلوم كيف ستبني إيران على نجاح مناورتها المعقدة هذه، لا سيما أن المزاج الشعبي العراقي يزداد عداءً للتدخل الإيراني السافر ويأنس للمكون الوطني في خطاب الصدر. وقد شهد العراق عدداً من الاعتداءات على الزوار الإيرانيين لأضرحة ومراقد أهل البيت في العراق بما يؤشر إلى تجذر المشاعر السلبية تجاه الإيرانيين على المستويات الشعبية، التي ستظهر بوضوح عند أي تطور على المستوى السياسي في العراق، أكان من خلال تشكيل حكومة أمر واقع أو فيما لو أجريت انتخابات مبكرة. مرة أخرى، سيثبت أن التساهل مع إيران، ينتج هدنات مؤقتة، ويعبّد الطريق أمام حروب أهلية أكيدة.