بقلم - سام منسى
أكثر من 250 صاروخاً أطلقهم «الحرس الثوري» الإيراني على إسرائيل رداً على اغتيال إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» في طهران، وعملية تفجير مقر القيادة لـ«حزب الله» في الضاحية الجنوبية لبيروت التي أدت إلى مقتل أمين عام الحزب حسن نصر الله. حصيلة الهجوم المعلنة كانت مقتل فلسطيني في مدينة أريحا في الضفة الغربية، وعدداً من الإصابات الطفيفة في مناطق إسرائيلية مختلفة، إضافة إلى تضرر بعض القواعد العسكرية، دون أن تكشف إسرائيل عن مدى هذا الضرر. اللافت أن نتائج هذا الهجوم الصاروخي تحاكي نتائج ردود «حزب الله» على العمليات الإسرائيلية ضده على المستويات كافة، لا سيما منذ حادثة تفجير أجهزة «البيجر» و«التوكي وكي»، والتي بلغت ذروتها باغتيال الأمين العام في زلزال أصاب الحزب وبيئته وعموم لبنان. حتى بعد الهجوم الإيراني على إسرائيل، بقيت خسائرها البشرية والمادية ضئيلة مقارنة بالخسائر التي تكبدها «حزب الله» وما أصاب لبنان واللبنانيين.
كان واضحاً أن إيران اضطرت إلى أن ترد، وكان ردها كسابقه مدروساً ومتسقاً مع مواقفها «الضابطة للنفس» منذ عملية «طوفان الأقصى». الفرق بين إيران والحزب هو أن طهران أحسنت قراءة المشهد الإقليمي والدولي الذي باتت فيه موازين القوى تميل بشدة إلى الغرب الداعم لإسرائيل وعلى رأسه أميركا، مع أفول نجم روسيا وابتعاد الصين. وأحسنت طهران قراءة التحولات العربية، خصوصاً في الخليج العربي الذي بات يتطلع قدماً نحو تحقيق سلام إقليمي. «حزب الله» فشل في قراءة المشهد، أو اندفع بغض طرف عن راعيه إلى خوض معركة إسناد «حماس»، مزهواً بذكرى «نصره الإلهي» عام 2006، علّه يستعيد بعضاً مما فقده عربياً عندما ساند نظام بشار الأسد، وشن حرباً غير معلنة على الدول الخليجية، محاولاً زعزعة أمنها الداخلي، اجتماعياً بالمخدرات وسياسياً بدعمه الحوثيين في اليمن.
منذ «حادثة» مقتل الرئيس الإيراني السابق إبراهيم رئيسي، وانتخاب شخصية «إصلاحية» هو مسعود بزشكيان، كان جلياً أن إيران دخلت مسار المهادنة مع الغرب، ومسار التركيز في هذه المرحلة على الدبلوماسية بدلاً من الحرب. لم يحسن أيضاً «حزب الله» قراءة هذا التطور. لفتني وصف الزميل عبد الرحمن الراشد في «الشرق الأوسط» للهجوم الإيراني على إسرائيل بأنه بمثابة «إعلان وفاة (حزب الله)»؛ فهي بحسبه «تقوم بالدور الذي كان مهمة الحزب»؛ إذ إيران التي خلقت الحزب ودعمت «حماس» لخوض حربها مع إسرائيل بالوكالة وتشكيل طوق يحميها، أجبرتها خسائرهما على الدخول في حرب مباشرة مع تل أبيب. هذه الملاحظة الجوهرية تسمح بالقول إن إيران خسرت «حزب الله» عندما انخرط بحرب غير محسوبة وغير متكافئة مع إسرائيل، وهو عاجز عن استخدام كل قوته؛ لأن من جهة إيران لا تريد ذلك، ومن جهة أخرى فإن ذلك يعني دمار لبنان بأكمله. قد يقول البعض إن نهج طهران الجديد هو مسرحية بحتة، إنما المؤكد أن الأداء العسكري التكتيكي والتقني لإسرائيل وإنجازاتها منذ عملية «طوفان الأقصى»، دفعاها أكثر إلى المراجعة والتفكير.
على المستوى اللبناني، رحيل نصر الله ترك حزبه يتيماً، ومن الصعوبة أن يملأ أي أحد مكانه ومكانته التي رسخها على مدى 30 عاماً. كما يصعب على أي كيان تخطي إبادة ثلاثة مستويات من القيادة، فضلاً عن النكسات النفسية العميقة التي لحقت ببيئته، وأكبرها خيبة الأمل من إيران. قد يستغرق الأمر وقتاً كبيراً للتعويض، والخوف أن تنخر الحزب خلافات داخلية بين مؤيد لطهران، ومعارض لها، وثالث متفلت من كل الضوابط، تُترجم بنكسات أمنية متجولة، ويتحول الحزب إلى مجموعات متناحرة تزيد من تداعيات الفراغ الذي خلفه غياب نصر الله. اليوم، يعيش لبنان القائم على نظام الطوائف أكبر الفراغات: فراغ في الزعامة السنية والمسيحية، واليوم فراغ في الزعامة الشيعية؛ ولذلك يشعر اللبنانيون باليتم، من دون سعي جدي للخروج من عباءات الطوائف والدخول إلى الدولة الوطنية، كذلك الخروج من الهويات الدينية والطائفية للدخول إلى المواطنة، والتفلت من الآيديولوجيات العقيمة لمصلحة مراجعة فكرية منفتحة وحداثية. الرهان على حكمة المعارضين لـ«حزب الله» والمد اللبناني المدني العابر للطوائف الذي شهدناه عند إنشاء حركة «14 آذار» 2005، وحراك 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019، الآن يواجهون تنظيماً أضعف ومجالاً أكثر تكافؤاً سيؤدي إلى مساحة أكبر للسعي إلى عقد وطني جديد في لبنان، علّهم يهتدون ولا يخلقون مظلومية جديدة. يكفي شيعة لبنان ما ارتكبوه من انتحار جماعي عندما ألحقوا أنفسهم بإيران، متناسين ما قاله علي خامنئي يوماً: «إذا لم نحاربهم في لبنان وسوريا واليمن، سنضطر إلى محاربتهم في طهران وأصفهان ومشهد وتبريز». استعملهم بما يكفي، ويبدو من كلامه في تأبين نصر الله أن شيئاً لم يتغير.
على لبنان اللحاق بركب الاعتدال العربي، لكن غصن الزيتون لن يجدي إلا إذا انسحبت المراجعة على غالبية بلدان الشرق الأوسط، لا سيما إسرائيل واتجاهها العدواني المتمثل في الصهيونية الدينية والمقاربات الأمنية.