بقلم - سام منسى
ليس من باب التجني أو المبالغة اعتبار مقاربات التعاطي مع قضية احتجاز الأمن العام اللبناني مطران حيفا والأراضي الفلسطينية المقدسة موسى الحاج، إبان عودته براً من إسرائيل، خاطئة من الوجوه كافة، بل ومخاتلة. لا بد من التذكير أن عبور رجال الدين الحدود بين لبنان وإسرائيل يعود إلى تاريخ نشوء الكيان الصهيوني، منهم مراجع دينية موقرة مثل مطران حيفا للروم الكاثوليك جورج حكيم، الذي تولى سدة البطريركية باسم مكسيموس الخامس، ويوسف الخوري مطران صور والأراضي المقدسة، ويوسف ريا، ولطفي لحام مطران القدس للروم الكاثوليك الذي صار بطريركاً أيضاً باسم غريغوريوس الثالث، وغيرهم من قساوسة وأساقفة للكنائس الأنغليكانية والبروتستانتية.
الإشكالية الرئيسة التي تطرحها هذه القضية هي إلى متى سيبقى لبنان أرضاً وشعباً ومؤسسات محتجزاً بأسره لصالح حالة حرب ناشطة وكامنة، يزعم أنها لن تنتهي حتى تحرير فلسطين، علماً بأنه محكوم باتفاقية الهدنة الموقعة مع إسرائيل في عام 1949 وقرارات دولية؛ من القرارين 425 و426 وصولاً إلى القرار 1701؟ وإذا صح أن الدولة اللبنانية غير قادرة على تنفيذ القرارات الدولية، لا سيما 1559 و1701، لأنها ترتبط بالوجود العسكري النظامي والميليشياوي الأجنبي في لبنان والدولة مغلوبة على أمرها، فاتفاقية الهدنة هي بينها وبين إسرائيل وحدهما، وعدم احترامها يعني أن الدولة باتت في حكم المغيبة. هذا الكلام ليس بأي معنى دعوة إلى سلام مع إسرائيل أو إنهاء حالة الحرب والعداوة معها، أو تطبيع العلاقات، بقدر ما يهدف إلى استعادة الحياة الطبيعية، ووضع حد للمتاجرة بالقضية الفلسطينية، وجر البلاد والعباد إلى حروب ومعارك وديمومة حالة القلق واللااستقرار التي يعيشها لبنان منذ عام 1969، هذا مع الإشارة إلى أن دولاً إسلامية وعربية ذات وزن وقعت اتفاقيات سلام مع إسرائيل، أو تتبادل مصالح أو تنسج علاقات تطبيعية لمصالحها الوطنية العليا.
الإجابة الجاهزة هي أن لبنان في الأسر، كون قرار السلم والحرب، كما غيره، بيد «حزب الله» وحده، وهو لن يقبل أن تحكم اتفاقية الهدنة علاقاتنا بإسرائيل، بل يتمسك بدور المقاومة بحماية لبنان وتحرير ما تبقى من أراض محتلة في مزارع شبعا المختلف على ملكيتها بين لبنان وسوريا، وأضيف إليها اليوم حماية ثروات لبنان البحرية من النفط والغاز. بيت القصيد هو أن مقاربات موضوع احتجاز المطران كلها خاطئة، بدءاً من التغاضي عن اتفاقية الهدنة إلى اعتبارها مشكلة قضائية أو قانونية. وفي هذا الشأن تحديداً، لا بد من القول إن سذاجة المحتجين على توقيف المطران بلغت حدوداً غير معقولة عندما قارنوا مخالفته للقانون اللبناني القاضي بعدم التعامل مع العدو الإسرائيلي مع ممارسات «حزب الله» منذ عقود، من إعلانه جهاراً أنه بيدق من بيادق ولاية الفقيه يحارب في الخارج والداخل لتحقيق طموحات إيران التوسعية، إلى سياسته في الداخل التي لم تعطل وتخالف القوانين والدستور والأعراف فحسب، بل فرض عبرها قوانينه وأعرافه وسياساته وحروبه وعدالته وهيمنته على بقية الطوائف وتطويعها. هذه المقارنة خاطئة لأنها تنطلق من مبدأ لماذا يحق للحزب ما لا يحق لنا، وفي هذا السؤال اعتراف علني بأن عبور المطران من إسرائيل حاملاً مساعدات مالية وإنسانية هو خيانة كخيانة «حزب الله» المُجاهر بأنه جندي في قوات دولة أجنبية. هذا عدا عن كون الكلام عن أبعاد قانونية أو قضائية بات في هذا البلد من باب النكات السمجة والهزل المبتذل، مع هيمنة وطغيان السياسة على القضاء، ناهيك عن أن الأحكام القضائية الدولية أصبحت وجهات نظر، ويُرفع المدانون إلى مرتبة القداسة، وتذوب التحقيقات القضائية المحلية من التحقيقات المتعلقة بمسلسل القتل الممنهج منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حتى جريمة تفجير مرفأ بيروت. كيف للعدالة وسلطة القانون أن تستقيما والوضع على ما هو عليه؟
وكما أن المقاربة القانونية في غير محلها، كذلك اعتبار قضية احتجاز المطران قضية مسيحية بعامة ومارونية بخاصة. وإذا كان القصد من الاحتجاز هو تحريك النعرات الطائفية، فكان من الفطنة والحكمة تحويله فوراً إلى قضية وطنية، وهو هكذا أصلاً. فمن أوقف المطران هو قاض ماروني ومرجعيته السياسية مارونية نافذة هي «التيار الوطني الحر»، التابع للماروني الأول، أي رئيس الجمهورية. لذلك تحاشت شريحة وازنة من المسيحيين إعلان تعاطفها مع المطران وإدانة القاضي أو تحميل مسؤولية ما لرئيس البلاد. صحيح أن التيار حليف «حزب الله»، لكن كان الأجدى ومن باب الحنكة السياسية، التصويب على القاضي والسلطة والحزب عوضاً عن إطلاق النار العشوائي على الطائفة الشيعية برمتها، وإصابة المسلمين السنة بشظايا الشعارات والأوصاف والتهديدات الجوفاء التي أطلقتها هذه الحملة، نابشة مشاهد وذكريات من الحرب الأهلية البائسة يمقتها معظم اللبنانيين ويرفضون العودة إليها، لا سيما المسيحيين، الذين دفعوا أغلى الاثمان جراء السياسات والممارسات الاستعلائية نفسها التي اتبعت وأدت فيما أدت إلى ما وصلنا إليه اليوم. إن شعارات اليوم مثل «نحن» و«هم»، ترداد لتلك الممارسات السابقة التي اعتبرت حينها أن المكونات الأخرى دخيلة، كما المسيحيين ممن لا يشاطرون مطلقي هذه الشعارات الرأي. اليوم نائب «حزب الله» محمد رعد، يعتبر أن البلد لهم، وأن من لا يشاطرهم الرأي خائن ودخيل. مقابلة استعلاء النائب رعد باستعلاء آخر خطيئة، علماً بأن عدداً من القيادات المسيحية حاولوا امتصاص وكبح تمادي المتحمسين من المحتجين ما يدل على صحة ما نقول وخطورته، لا سيما في هذه المرحلة الدقيقة الفاصلة الحبلى باستحقاقات قد تغير نهائياً هوية البلد، وهذا ما ينقلنا إلى المقاربة الخاطئة الثالثة لقضية المطران.
في الوقت الذي يحتم أقصى درجات التنسيق والتضامن والوحدة بين الأطراف والقوى الرافضة لهيمنة وأدوار وأهداف «حزب الله» في الداخل والخارج، نراها متباينة بل مختلفة فيما بينها، والموارنة منهم بخاصة لا تشغلهم قضية إلا رئاسة الجمهورية، واستعدادهم التضحية بالغالي والنفيس للوصول إلى قصر بعبدا. حادثة المطران الحاج استخدمت كأحد الأسلحة في المعركة فيما بينهم، غير آبهين بالمخاطر المحدقة إذا قدر لـ«حزب الله» أن يأتي بمن يريد إلى سدة الرئاسة، أو إذا تعذر له ما يريد، أن يستعمل سلاح التعطيل الذي يستسيغه ويدفع بعد طول الفراغ وتداعياته إلى مبتغاه من عقد مؤتمر تأسيسي يطيح باتفاق الطائف. وصحيح أيضاً أن المنافسة محصورة بالموارنة، إنما المسؤولية في هذا الشأن على الجميع. حادثة المطران الحاج، ولأنها مرتبطة بالقطيعة مع إسرائيل، سببت حرجاً غير مبرر لقيادات طوائف أخرى ترددت عن إعلان تضامنها معه ومرجعيته في بكركي أو إدانة طريقة التصرف معه، والتزمت صمتاً مريباً أو في أحسن الأحوال أخذت موقفاً رمادياً. عدم اتخاذ موقف واضح يحمل هذه القيادات المناهضة لـ«حزب الله» مسؤولية لا تقل عن تلك التي تتحملها الجهات التي اعتبرت قضية المطران قضية مسيحية.
تناسل الأحداث والأزمات وطبيعتها في لبنان، يؤكدان في كل مرة حقائق موجعة، أبرزها أن ما سمي بلحمة وطنية عابرة للطوائف ولدتها حركة «14 آذار» عام 2005 كانت خدعة، وأن الشقوق بين اللبنانيين على حالها ولم يتعلموا على اختلافهم، لا من تجارب الداخل الكثيرة والمؤلمة، ولا من دروس المتغيرات في المنطقة. لم تبرح ما اصطلح على تسميته المكونات اللبنانية، تعيش في ماضي التاريخ، وإن غادرته فإلى الأوهام والأساطير والخيال، وكل منها تنتظر منقذاً من الخارج يأتي على حصان أبيض لينقذها من «شركائها في الوطن» ويعينها للتغلب عليهم.