كم عمر المفاهيم

كم عمر المفاهيم؟

كم عمر المفاهيم؟

 صوت الإمارات -

كم عمر المفاهيم

بقلم - عبدالله بن بجاد العتيبي

لكل زمانٍ منظومة من المفاهيم والأفكار والأخلاق والقيم، تتطوّر بتطور البشر وبيئاتهم وأحوالهم. والتطوّر له مساران، إيجابي وسلبي، بمعنى أن التطوّر والتغير ثابتٌ إنسانيٌ لا جدال فيه، والإنسان يصنع «المفاهيم» كما أن «المفاهيم» تصنع الكثير من عقول البشر.
لكل مجموعةٍ بشرية في لحظة من الزمان منظومة «مفاهيم» منها الرئيس والمتوسط والفرعي، وهي تترابط فيما بينها وتنشد الإحكام والشمول والترابط، واختلاف المعطيات والظروف ينتج اختلافاً في سيادة بعض المفاهيم أو هامشيتها في انتشارها وتأثيرها أو محدوديتها وعدم فاعليتها.
دون تعقيد أو تشعبٍ، فتاريخ المسلمين -على سبيل المثال- مليء بمنظوماتٍ مفاهيمية تسود وتخبو بحسب الزمان والمكان والمعطيات. فمنظومة «علم الكلام» التي تبحث في «الإلهيات» و«أصول الدين» ولها مسائل كبرى وصغرى من أشهرها «كلام الله»، وهل هو منزّل أم مخلوق؟
وهي التي أثارت على مدى عقودٍ من الزمن جدلاً وفرقةً وتكفيراً وقتالاً بين المسلمين.منظومة «علم الفلسفة الإسلامية» هي منظومة أوسع من ناحية الأفكار و«المفاهيم» ولكنها أضيق انتشاراً من منظومة «علم الكلام» وينطبق الأمر ذاته على علومٍ كبرى في التراث الإسلامي مثل «علم الفقه» و«أصول الفقه» و«علم الحديث».
ويمكن للباحث والمتخصص أن يتصوّر شبكة المفاهيم الكبرى والمعقدة التي تحكم كل هذه العلوم وتتحكم بالتالي في تفكير البشر ورسم خياراتهم في كل ما حولهم. منظومات المفاهيم المتشابكة تعتقل عقول البشر، والانعتاق منها مهمة عسيرة على لأفراد فكيف بالمجتمعات، والأمثلة تختصر الكثير، فلنأخذ منظومة مفاهيم «التطرف» المنتشرة منذ قرونٍ وتلك المتفشية منذ عقودٍ وصولاً لعالم اليوم، فالشابّ الذي لا يرى العالم إلا من خلال منظومة معقدة من المفاهيم المتطرفة لا يكاد يجد منها مخرجاً، فهو يفكر في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلوم والبشر من خلال «الكفر بالطاغوت» و«الولاء والبراء» و«الجهاد» و«الحاكمية» و«الجاهلية» و«التكفير» ولها عشرات المفاهيم المتفرعة عنها، فهو يحتاج بالفعل لجهدٍ شخصيٍ كبيرٍ وجهود دولةٍ ومؤسساتٍ ومجتمعٍ تساعده على التوازن والانعتاق، وهي مهمة تأخذ سنواتٍ للبناء والإحكام مع النشر والترويج.
منظومة أخرى يمكن أن تقابل هذه المنظومة المتطرفة، وهي تشمل مفاهيم مثل «الإيمان بالله» و«التسامح» و«التعايش» و«الرحمة» و«التنمية» و«الإنجاز» وصناعة «المستقبل» وهي أنفع للناس في دينهم ودنياهم، ولكنها ليست بحجم المنظومة المتطرفة أعلاه، ولا بسعة انتشارها وقوة تأثيرها، ويحتاج العمل عليها لسنواتٍ في مستوياتٍ متعددةٍ وعلى أبعادٍ متباينةٍ.
تحدٍ آخر يواجه أي محاولةٍ لتحريك «منظومات المفاهيم» أن «المفاهيم» الحديثة هي دائماً برسم التحوير وإعادة التأويل وهي مهمةٌ تقوم بها الكثير من الجماعات والتيارات والرموز بهدف ترسيخ القديم داخل عباءة الجديد، وقد رأينا كيف أن مفاهيم مثل «الحرية» و«العدالة» و«المساواة» و«الحقوق» و«البناء» و«التنمية» و«التنوير» أصبحت في سنواتٍ قليلةٍ ماضية اسماً وشعاراً لجماعات الإسلام السياسي وتنظيمات العنف الديني، واستخدمت لتسويق نفس المنظومة المفاهيمية القديمة، ولكن بأسماء جديدةٍ فقط.
هذا السياق يوضح أن دعاوى كبرى مثل «نهاية الأصولية» و«انقضاء الإرهاب» هي دعاوى لا تمت للعلم والعقل بصلةٍ، بل هي تنمّ عن سطحيةٍ وجهلٍ بسيطٍ أو مركبٍ ولا يمكن أن تثبت أمام أي معيارٍ علميٍ أو تدقيقٍ منطقيٍ، هذا إذا استبعدنا أغراضاً أيديولوجيةٍ أو مصلحيةٍ وراء تبنّي مثل هذا الطرح المهترئ.
طبيعة البشر وتطورهم طبيعةٌ معقدةٌ وشائكة، والتعامل معها بغية التأثير والبناء والتطوير مهمةٌ جلّى وتستحق كل عناء يبذل فيها. أخيراً، فإن انشغال صانع القرار في الدول الحية والفاعلة بالسياسات الكبرى والصغرى، والتحديات الداخلية والخارجية يوجب أن تكون لتفكيره ورؤاه مراكز دراساتٍ متخصصة وذات معايير عالية تهتم بصناعة المفاهيم وترويجها.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

كم عمر المفاهيم كم عمر المفاهيم



GMT 02:30 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السادة الرؤساء وسيدات الهامش

GMT 02:28 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

«وثائق» عن بعض أمراء المؤمنين (10)

GMT 02:27 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

من يفوز بالطالب: سوق العمل أم التخصص الأكاديمي؟

GMT 02:26 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

روبرت مالي: التغريدة التي تقول كل شيء

GMT 02:24 2022 الأربعاء ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

السعودية وفشل الضغوط الأميركية

GMT 06:02 2025 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون
 صوت الإمارات - أسرار أبرز التيجان الملكية التي ارتدتها كيت ميدلتون

GMT 22:24 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 14:45 2017 الأحد ,16 إبريل / نيسان

"الشيكولاتة المكيسكية" أبرز وصفات لويز باركر

GMT 09:19 2016 الأحد ,21 شباط / فبراير

اليابان تبتكر "موبايل" قابل للغسل

GMT 16:02 2017 الخميس ,30 تشرين الثاني / نوفمبر

يوسف السركال" القطريون دبروا ما حدث في بانكوك"

GMT 08:27 2015 الأربعاء ,09 كانون الأول / ديسمبر

نهيان بن مبارك يفتتح معرض "السوربون أبو ظبي"

GMT 17:09 2019 الثلاثاء ,22 كانون الثاني / يناير

تسريبات تكشّف تفاصيل عن مواصفات "سامسونغ غالاكسي S10"

GMT 14:25 2015 الأحد ,25 كانون الثاني / يناير

الشارقة الدولي للكتاب يشارك في معرض القاهرة

GMT 21:15 2015 الخميس ,24 أيلول / سبتمبر

توم فورد يقدم عطرًا مستوحى من ازدواجية إمرأة

GMT 07:09 2017 الجمعة ,01 كانون الأول / ديسمبر

كتابيه لـ عمرو موسى الأكثر مبيعًا في مهرجان الكويت

GMT 08:23 2013 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

مراسلو الإذاعة في ميادين مصر لرصد الاحتفالات الشعبية

GMT 14:28 2017 الجمعة ,27 تشرين الأول / أكتوبر

الوجبات الخفيفة تعزز طاقة الجسم وتحميه من الجوع
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice emiratesvoice emiratesvoice
emiratesvoice
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
emirates , emirates , Emirates