بقلم - سليمان جودة
في مرحلة ما بعد هزيمة 5 يونيو (حزيران) 1967، بادر الملك فيصل بن عبد العزيز، يرحمه الله، إلى الوقوف مع مصر وقفة شجاعة، رغم ما كان بينه قبلها وبين عبد الناصر من مناوشات ومشاحنات معروفة. وعندما قدّم الرجل 100 مليون دولار إلى القاهرة في قمة الخرطوم العربية الشهيرة بلاءاتها الثلاث بعد الهزيمة، كان سعر برميل البترول ثلاثة دولارات، وما قدمه كان ضخماً وقتها، وكان أكثر ضخامة قياساً على ما نعيشه من مستويات هذه الأيام، وكان الأهم أنه نسي ما يخصه وتعامل مباشرة مع ما يخص القاهرة.
كان يبادر بموقفه المضيء من دون دعوة ولا انتظار، وكان في مبادرته يدرك أن ما تعرضت له مصر في تلك السنة، لا بد أن يصادف وقفة عربية إلى جوارها، وكان هو مَنْ أطلق شعلة هذه الوقفة.
وفي أثناء حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 كان الموقف السعودي الذي بادر به هو أيضاً، في المقدمة من المواقف التي ساهمت في تحقيق النصر. كان موقفه قوياً، وكان يتسق مع الخط العروبي الذي تلتزمه المملكة، وكان موقفاً فاصلاً تحول فيه البترول من سلعة إلى سلاح، لا لمحاربة أحد، ولا لمناصبة أحد العداء، ولكن للدفاع عما رآه مصلحة عربية، فلما تحقق النصر كان نصراً عربياً بقدر ما كان نصراً مصرياً، وكان موقف الحكومة السعودية مما سوف يظل يذكره كل منصف يؤرخ للنصر.
ورغم الوفرة التي تحققت في عائد النفط للمملكة العربية السعودية، ومعها بقية دول الخليج، بعد ارتفاعات أسعار البترول بتأثير الحرب، فإن سعر البرميل لم يتجاوز 11 دولاراً، وكان سعراً يحلق عالياً في السماء بمقاييس تلك الأيام!
وكان في مقدور الملك فيصل ألا يفعل ما فعله في الحالتين، لو أنه أخذ الأمر بما كان قد صدر عن عبد الناصر في حقه، ولكنه آثر أن يقفز فوق ما هو شخصي إلى ما هو موضوعي، وأن يقدم ما بين الرياض والقاهرة، على ما كان بينه وبين قائد ثورة يوليو (تموز) 1952، وأن ينصت إلى وصية الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، الذي لما شاء أن يوصي أبناءه الملوك من بعده بشيء، أوصاهم بأن يحرصوا على علاقة مع مصر ترسخ ما بين البلدين من روابط التاريخ وحقائق الجغرافيا.
وفي مرحلة ما بعد زيارة السادات إلى إسرائيل في 1977، ذهب إلى الرياض مَنْ يطلب من الملك فهد اتخاذ موقف ضد العمالة المصرية في المملكة، ولكن الرجل رفض بعزم، وشاركه في موقفه أشقاؤه الأمراء، وكان تقديره وتقديرهم أنه حتى ولو كان هناك خلاف سياسي مع السادات، فالعمالة المصرية لا دخل لها في الموضوع ولا ذنب لها، وأن إدخالها طرفاً في قضية سياسية مسألة غير عادلة.
وكان موقف الملك فهد المتمسك بالرفض استكمالاً لموقف الملك فيصل من قبل، ولكن في ميدان آخر مختلف، وبطريقة تقول إن الملك المؤسس كان يقوم بزيارته العربية الوحيدة إلى مصر في 1946، وهو يعرف ماذا يفعل، كما كان يوصي أبناءه وهو على يقين بأن وراءه من يحفظ أمانة الوصية.
ولم يكن الملك عبد الله بن عبد العزيز بعيداً عن هذا النهج، وهو يبادر إلى وقفة مشهودة مع المحروسة في مرحلة ما بعد سقوط حكم جماعة «الإخوان» في يونيو 2013. فالبيان الذي صدر عن العاصمة السعودية في ذلك الوقت وضع الكثير من النقاط فوق الكثير من الحروف أمام العالم، وقال، إن ما يمس القاهرة يمس الرياض وإن العكس في المقابل صحيح.
وليس غريباً أن تخرج المبادرة العربية إلى النور على يد الملك عبد الله، عندما كان لا يزال ولياً للعهد يمثل بلده في القمة العربية في بيروت 2002، فهي المبادرة الوحيدة التي تذهب إلى التعامل مع قضية فلسطين من منظور عربي شامل ومسؤول؛ لأنها تقدم السلام لإسرائيل مع الدول العربية كلها، لا مع دول الجوار فقط، في مقابل الأرض التي احتلتها في 1967.
وإذا كان الملك فيصل هو مَنْ بدأ هذه الطريق، فلقد كان أشبه ما يكون بمن شق مجرى للماء يتدفق فيه من أول المسار بين البلدين إلى غايته في كل مرحلة من مراحل العلاقات، سواء كانت بين القاهرة والرياض خصوصاً، أو كانت بين العاصمة السعودية وبقية عواصم العرب في العموم.
ولكن فضل التأسيس لمبدأ الارتفاع فوق الخلافات العابرة بطبيعتها يظل يعود إليه، كما أن حسه العربي كان حساً نقياً ومبكراً، وكان يمارس ما يراه لنفسه ولبلاده عربياً بمسؤولية عالية، وكان يمارس ذلك مع مصر أو مع غيرها من بلاد العرب بدرجة من النُبل واضحة.
ومنه إلى الملك خالد من بعده، إلى الملك فهد، إلى الملك عبد الله، إلى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، كان المسار يواصل الطريق، وكان يستمد طاقته من وصية الملك المؤسس، ثم كان يستلهم الروح التي تصرف بها الملك فيصل في أحلك الظروف.
وعندما قامت الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير (شباط) الماضي، كان سعر البرميل في حدود 60 دولاراً، ولم يتجاوزها إلا بفعل الحرب التي دخلت شهرها الثامن!... وليس سراً أن السعر قفز مع استمرار الحرب، ومع فرض العقوبات الأميركية والغربية على روسيا، حتى وصل إلى حدود 120 دولاراً للبرميل الواحد، وهذا ما لم يكن في مرمى التوقعات تحت كل الظروف، لولا أن الحرب تأتي في العادة لتفرض منطقها، وأجواءها، وتفاجئ الكافة بما لم يكونوا يتحسبونه أو يضعون له أي اعتبار!
وحين تضاعف السعر إلى هذا الحد، فإن عوائد الدول النفطية حول العالم تضاعفت بالتالي، وكانت دول الخليج في المقدمة من هذه الدول، ولا بد ونحن نتكلم عن هذه العوائد أن «نمسك الخشب» منعاً للحسد كما تقول العامية المصرية.
وما كان الملك فيصل يبادر به تجاه القاهرة بعد 1967، ثم في أثناء الحرب إلى أن تحقق النصر، كان الشيخ زايد في الإمارات، يرحمه الله، يفعله أيضاً وفي الكثير جداً من المواقف التي يمكن رصدها في علاقته بمصر، فلقد احتفظ معها بعلاقة خاصة تميزت وترسخت مدى حياته.
وإذا أنت ذهبت تتابع هذا المعنى في حياة الشيخ زايد، فسوف تجده في محطات لا حصر لها، وسوف تجده يعبّر عن شعوره تجاه المحروسة بعاطفة صافية، لا تنتظر ولا تتأخر، ولكنها تتحدث عن نفسها بطريقة فطرية فيها من العفوية بقدر ما فيها من التلقائية.
ولا يزال «عيال زايد» يحفظون العهد، من أول الشيخ خليفة بن زايد، يرحمه الله، إلى الشيخ محمد بن زايد، رئيس الدولة، إلى بقية الأبناء الذين يأخذون عن الأب المؤسس، ما يأخذه أبناء الملك المؤسس عنه منذ غادر الدنيا في 1953.
وفي واحدة من دورات القمة الحكومية التي تنعقد كل سنة في دبي، سمعت الشيخ سيف بن زايد يتحدث عن مصر، فلم أسمع أحداً يتكلم عنها بهذا القدر الظاهر من الود، ولا بهذا الحس الصادق من التقدير، فكأنها وبلاده في نظره تستويان.
وإذا كانت مصر تمر منذ فترة بظرف اقتصادي ضاغط، فلا بد أن كل مصري يتطلع نحو الرياض مرة، ونحو أبوظبي مرة ثانية، وهو يتوقع أن تبادر العاصمتان تجاه القاهرة في ظرفها الاقتصادي، بشيء من نُبل الملك فيصل ونُبل الشيخ زايد معاً، لا لشيء، إلا لأن النُبل في العاصمتين يحمله الأبناء عن الآباء.