بقلم - هدى الحسيني
لم تكن الشابة الإيرانية مهسا أميني (22 عاماً) بثائرة ضد نظام الملالي، ولم تنتمِ إلى محيط معادٍ لهذا النظام، فهي من عائلة مسلمة من أصول كردية ولم تكن تدري أن عدم تغطية كامل رأسها بالحجاب سيلفت نظر رجال الأمن لوجهها الجميل ويؤدي إلى موتها. والدها يعمل في مكتب لتوزيع البريد ووالدتها ربة منزل تهتم برعاية عائلتها. المفارقة هنا أن اسمها كان جينا. حُرمت من اسم ولادتها، وهو اسم كردي، بموجب القوانين التي تحظر الظهور العرقي للأكراد. مهسا كان الاسم الفارسي على جواز سفرها، لكن اسمها كان جينا. خرجت مهسا يوم الخميس الماضي للقاء صديقاتها ولم تكن تعلم أن عدم غطاء كامل رأسها بالحجاب سيؤدي إلى موتها. عند وصولها إلى مكان لقاء صديقاتها تقدم منها رجلان عرّفا عن نفسيهما بأنهما من شرطة الأخلاق وطلبا أن تذهب معهما إلى مركز الشرطة، وحسب إحدى صديقاتها (باريبا مقصودي) التي كانت قد وصلت إلى المكان، سألت مهسا عن السبب فصفعها أحد الشرطيين صفعة مدوية أمام عدد كبير من الناس وتم اقتيادها بينما كانت تصرخ وتطلب المساعدة.
يوم الجمعة أعلن ناطق باسم شرطة طهران أن مهسا في أثناء توقيفها من شرطة الأخلاق وإعادة التأهيل أُصيبت بذبحة قلبية حادة وفارقت الحياة. هل تذكرون الطائرة الأوكرانية التي أسقطها «الحرس الثوري» عن قصد في 8 يناير (كانون الثاني) 2020 وظل يكذب بخصوصها وأن سبب السقوط خطأ بشري؟
بعد ساعات من بيان شرطة طهران بدأت المظاهرات في طهران وفي مدن إيران الرئيسية بما فيها قم ومشهد المقر الرئيسي للمرشد علي خامنئي، وأضرم الشباب النيران في مراكز الشرطة وأسقطوا صور المرشد في الساحات والطرق منادين بالثأر من قاتليها ومن الرئيس إبراهيم رئيسي وعلي خامنئي.
لقد وقع النظام في الخطأ نفسه الذي وقع فيه بشار الأسد في بداية أحداث درعا، فبدلاً من استيعاب الحادث وامتصاص غضب الناس انطلقت فرق الباسيج بأمر مباشر من اللواء إسماعيل قاآني قائد «فيلق القدس» وقامت بعمليات قمع قاسية، فاعتُقل آلاف المتظاهرين الذين اقتيدوا إلى المدن الرياضية وملاعب كرة القدم معصوبي الأعين ومكبلين، وأطلقت النيران من سطوح الأبنية فسقط عدد من القتلى، تقول منظمة العفو إن عددهم فاق 40 بينما قال بعض التقارير إن عددهم فاق 120 وما يزيد على 200 جريح. وخلافاً لما حصل في الانتفاضات السابقة، أقدم المتظاهرون على عمليات عنف مضادة، فقتلوا أربعة من قوات الباسيج بالسلاح الأبيض بعد محاصرتهم في الشوارع الفرعية، وأسقطوا قنابل «المولوتوف» على أماكن تجمع الباسيج، وعند هروبهم تم رميهم بالحجارة وآلات معدنية حادة فسقط عدد كبير منهم جرحى. ونقلت وكالة أنباء تركيا أن عدداً من قوات الأمن تمردوا على قياداتهم وتركوا مراكزهم. كما ذكرت معلومات أن المسؤولين الكبار نقلوا عوائلهم إلى مناطق أخرى بعدما هجم المتظاهرون على بيوت المسؤولين والوزراء والنواب.
قبل مغادرته نيويورك بعد اجتماعات الأمم المتحدة، صرح إبراهيم رئيسي بأن الدولة ستواجه المتظاهرين بالحزم. كان يعتقد أن اتصاله بعائلة أميني وتقديم العزاء لوالدها سيخفف من غضب الناس، لكن ازدادت وتوسعت رقعة الاحتجاجات العنيفة. وقد أعلن وزير الاتصالات الإيراني عيسى زارع بور عن تعطيل الإنترنت لأسباب أمنية، ووُضعت قيود مشددة على شبكة الإنترنت والهواتف الجوالة التي تشمل «إنستغرام» و«واتساب».
وتوالت بيانات الشجب والاستنكار الدولية وتكثفت تغريدات قيادات المجتمعات المدنية التي دعت إلى رفع الظلم عن الشعب الإيراني الذي أصبح معزولاً بالكامل يواجه من قتل مهسا أميني. بعدما قطعت إيران الإنترنت والاتصالات الخارجية عن العالم قال الملياردير الأميركي إيلون ماسك إنه سيفعّل نظام «ستارلينك» لإعادة الإنترنت إلى إيران عبر قمر صناعي لا قدرة لسلطات إيران على حجبه.
أيضاً استغل «الحرس الثوري» هذه الحالة الحساسة جداً في إيران الواقفة على مفترق طرق: فوقّع الكثير من كبار قادة «الحرس الثوري» الإيراني عن «خالص تقديرهم» للرئيس، مشيدين بخطاب رئيسي «الشجاع» خلال الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي رفع فيه صورة قائد «فيلق القدس» السابق قاسم سليماني واحتجّ على «الاغتيال المخزي». ومن بين الموقِّعين القائد العام لـ«الحرس الثوري» الإيراني حسين سلامي، ورئيس مقر «الحرس الثوري» الإيراني القائد علي فدوي، وقائد القوات الجوية أمير علي حاج زاده، ورئيس أركان القوات المسلحة محمد باقري، وقائد «فيلق القدس» إسماعيل قاآني...
لقد شعروا بأنها لحظة محورية بالنسبة إلى إيران والعالم. أصبحوا مقتنعين بأن خطاب دعم من كبار قادة «الحرس الثوري» الإيراني لرئيسي مع توقيع أسمائهم ربما يكون فرصة لرئيسي كالزعيم الأعلى المتوقع، أو قد يكون إحساساً بضعف خامنئي الذي يريد توريث ابنه الثاني مجتبى رغم رفض رجال الدين الآخرين. التأييد ليس شيئاً يمكنهم قوله صراحةً لكن خطاب الدعم هذا يمكن أن يدعم طموح رئيسي للحصول على دعم «الحرس الثوري» الإيراني.
ولكن بعيداً عن كل هذه التساؤلات، الأهم هو هل ستؤدي هذه الانتفاضة إلى سقوط نظام الملالي مثلما سقط شاه إيران في نهاية سبعينات القرن الماضي، خصوصاً أن أغلبية الشعب تعاني من الفقر والعوز بفعل العقوبات والعزل وانعدام الرؤية لمستقبل واعد قريب؟
الأغلب أن الانتفاضة هذه المرة مهما استمرت فهي ستُخمد بالحديد والنار، لأن هذا النظام هو بالصميم شمولي وقمعي ولا يملك معرفة أو لديه مقدرة على التواصل مع المجتمع... وديمقراطية هذا النظام ليست سوى بدعة لإرضاء الخارج، فلا سلطة تعلو فوق سلطة الولي غير المنتخب الذي لا حدود لصلاحياته المستمدة من ما ورائيات لا يعرفها سوى قلائل، ولهذا فإن عصيان الأمر بالقتل والتنكيل هو أمر محرم وتنفيذه واجب. وهناك مجموعة عوامل خارجية ستسمح ولو مؤقتاً باقتراف هذا النظام جرائم فظيعة بحق الشعب ليبقى متماسكاً وقابضاً على الدولة، وهذا ما لم يتوفر للنظام السوري.
من المؤكد أن العالم كله صار مطلعاً ومرافقاً لما يردده الشباب الإيراني في هذه الانتفاضة،
كأن المدن صارت مدينة واحدة، فمثلاً تلحظ أن أصوات الليل في طهران: صيحات «الموت للديكتاتور». وفي كل المدن، يتجمع الحشد ليطلق صيحات: «النساء! الحياة! الحرية!».
ثم ها هي قم، المركز الشيعي الأول في إيران، في تمرد مفتوح ضد الجمهورية الإسلامية. إن الاحتجاج ينتشر في جميع أنحاء البلاد، بل يتخطى حدود إيران.
قال رئيس القضاء الإيراني غلام حسين محسني إيجي، يوم الثلاثاء الماضي: «على المشاغبين أن يعلموا. لقد أرسل أعداؤنا عملاءهم لمهاجمة شعبنا وممتلكاته»... وتشير السلطات الإيرانية إلى المتظاهرين على أنهم مثيرو الشغب من أجل تبرير القمع القاسي الذي تمارسه.
بكل أسف هناك عوامل أخرى تجعل هذه الانتفاضة لن تنجح.
من أول هذه العوامل، الأوضاع الاقتصادية العالمية التي لا تسمح لدول القرار بالإقدام على مواجهة كبرى كتلك التي يمكن أن تحصل مع إيران. فأوروبا التي تنبري دائماً للدفاع عن حقوق البشر لديها صعوبة كبيرة في تدبير أمورها بعد حرب أوكرانيا وتوقف إمدادات النفط والغاز الروسي، وهي تعمل جاهدة على إنجاز الاتفاق النووي الإيراني للاستفادة من مصدر بديل للطاقة، وعليه فإن الأولوية هي لتأمين التدفئة لمنازل شعوبها وتحريك مصانعها قبل الدفاع عن حقوق الإيرانيين.
وهناك أيضاً المصالح الصينية مع إيران المستقرة والتي توصلت إلى اتفاق تعاون مدته 25 عاماً وهو ما سيحمل المارد الآسيوي على وضع كل إمكانياته لعدم انفلات الأوضاع في إيران وتوقف مشاريع ضخمة بدأت الصين بإنشائها لقاء عقود نفط منخفضة الأسعار. ستستعمل الصين علاقاتها الخارجية للذود عن نظام الملالي وستستخدم حق الفيتو في أي مشروع قرار في مجلس الأمن.
وهناك أيضاً عامل غياب البديل عن النظام الحاكم منذ 43 عاماً، فعندما سقط نظام الشاه كان البديل جاهزاً وينتظر ساعة الصفر في باريس التي انتقل منها الخميني ليتربع على رأس جمهورية إسلامية ستخرّب العالم لاحقاً، وهذا البديل غير موجود اليوم. وتدرك جميع دول القرار، أعداء وحلفاء، أن هذا النظام رغم سيئاته، وهي كثيرة جداً، يظل أفضل من الفراغ الذي سينتج عنه صراع دموي مؤكد بين أعراق وإثنيات مترامية ضمن حدود الدولة الإسلامية وخارجها أيضاً. كما أن الفراغ سيجعل أذرع الدولة الإسلامية التي تأتمر من طهران من دون غيرها وبالمباشر، في حال تخبط وضياع مع خطر إقدام الأذرع على قرارات تؤدي إلى ما لا يحمد عقباه.
رغم بقاء النظام، من المؤكد أن أحداث إيران الأخيرة قد هزت كيان نظام الملالي ليضيف إلى ضغوطه، ومع تأخر الإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة في بنوك الولايات المتحدة وأوروبا، وتفاقم أزمة التضخم العالمية ليصيب الغالبية العظمى من فئات المجتمع الإيراني، سيسعى النظام إلى محاولة استعادة توازنه الداخلي وبالتوازي تقليص حجم نفوذه الخارجي الذي أصبح موضع انتقاد كبير لتكلفته العالية بينما 64% من الشعب يرزح تحت خط الفقر.
وهناك أخيراً قلق عميق لدى أركان الدولة الإسلامية، على المستقبل بعد موت مرشدها وحاكمها المتربع على عرشها منذ وفاة الخميني عام 1989، خصوصاً أن علي خامئني في سنه المتقدمة مصاب بمشكلات صحية لا علاج لها واحتمالية غيابه وما ينتج عنها من صراع قوى أصبح موضع قلق.
في النهاية هذه هي إيران التي تُقتل فيها الصبايا اللواتي لا تتجاوز أعمارهن 22 أو 23 سنة بأوامر من رجال تزيد أعمارهم على 82 أو 92 سنة. إنه الماضي يقتل المستقبل.