بقلم - سمير عطا الله
أنا واثق أن الاهتمام العالمي بحرب أوكرانيا قد انخفض كثيراً. ستة أشهر من أخبار الموت والقتل والاحتلال، زمن طويل وطاقة الإنسان قدرة قصيرة. أقصى ما تعاني منه الشعوب المقتولة يومياً، شعورها بأنها أصابت الشعوب الأخرى بالملل، أو أنها انشغلت بقضية أخرى.
أقصى الجبهات في الحرب هي جبهة النسيان. جبهة الرتابة واليوميات العادية. يروي كتاب «الباريسيات» للكاتبة آن سبا حياة المرأة الفرنسية خلال الاحتلال الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، كان الزوج قد ذهب إلى القتال، أو إلى السجن، أو إلى معسكر الاعتقال أو الموت. وكان على الزوجة أن تتدبر شؤون البيت والأبناء والإعاشة والعمل والتدفئة. تحولت باريس إلى مدينة تعيلها النساء... بشتى الوسائل. وباعت الكثير من النسوة أجسادهنَّ للجندي المحتل. وانتشرت بيوت الدعارة بسبب الفقر. لكن في المقابل دخلت المرأة صفوف المقاومة. وتعددت أشكال المقاومة من المشاركة في إقامة الأفخاخ المسلحة إلى مقاطعة المخازن التي تضع على أبوابها: هنا نتحدث الألمانية.
أصبحت اللغة عملاً عدوانياً كما هو الحال في أوكرانيا اليوم، ومن يتكلم لغة العدو هو عدو أيضاً. وينطبق الأمر على بعض المأكولات الشعبية الشائعة في زمن السلم. وكانت المقاومة الفرنسية توزع بين حين وآخر تعليمات حول المزيد من الوسائل لمضايقة المحتل.
من يقرأ «اليوميات» الصادرة من كييف أو المدن الأخرى الآن، سوف يُخيّل له أنه يقرأ يوميات الفرنسيين أوائل الأربعينات. لكن الفرنسيين انقسموا فيما بينهم. الأكثرية مشت خلف الجنرال ديغول و«فرنسا الحرة»، والآخرون لحقوا بالمارشال بيتان، الذي وجد الحل في الاستسلام للألمان. تحوّلت البيتانية إلى رمز للخيانة وبيع النفس والوطن، وخصوصاً، الشرف. وكانت كل امرأة تعاشر جندياً ألمانياً، سواء لسبب مادي أو عاطفي، يُحلق شعرها تماماً للدلالة على عارها أمام الناس. وأحياناً كثيرة كانت المرأة تبيع نفسها لقاء بطاقة غداء أو عشاء.
تلك هي الأخبار «الثانوية» التي لا نقرأ عنها شيئاً. فقط الأخبار المهمة تذاع على الناس: سقوط المدن. انفصال الدول. تفكك الأمم. لكن سنوات طويلة سوف تمر قبل أن نقرأ عن «الباريسيات» ودور المرأة الفرنسية وبطولاتها التي جعلت جنرالاً ألمانياً يقول: «لو أن المرأة الفرنسية هي من وقف في وجه زحفنا، لما وصلنا إلى باريس أبداً».
في الحروب تضع الفرنسية - وسائر النساء – العطر جانباً لتؤدّي الدور الآخر. دور الأم والزوجة. أو كي تعمل 15 ساعة في غسل المطابخ يومياً لقاء وجبة واحدة. وحتى هذا لا يعود كافياً، (الباريسيات)، فيصبح متوجباً عليها بيع نفسها إلى جندي فرنسي متعامل لكي يبلغ أهلها بمكان وجودها، وأنها على قيد الحياة.
هناك خيار وهو ألا تقرأ أخبار الحرب في أوكرانيا، أو وصف الحرب في باريس الأربعينات. ولكن كيف يمكنك ألا تقرأ أنه بسبب تلك الحرب أصبح سعر كرتونة البيض في مصر 75 جنيهاً، وأن سعر تنكة البنزين في لبنان ارتفع من 200 ألف ليرة إلى 700 ألف. هذه أخبار بطيئة. الأخبار العاجلة تأتي من الكرملين.