بقلم : حامد عبدالحسين حميدي
حرّك يده طرقَ سطح الأرض
خشى توهّم المارة سكونه
نطق ببعض الحروف
كي لا يتيبس ريقه
فأين تسبح الكلمات ؟!
نظر برفق إلى إنصاف النخيل
لئلا تشعر بسلطة النقص
فيتحجّر قلبه !! . ( ص 9 )
( تحجّر قلبه ) تركيب يدلّ على الجمود والثبوتية / رفض الحركة المصاحبة بالتفاعل الحيّ ، لجأ اليه الشاعر عبر إرساليات متناغمة في إيحاءات ذات خطابية مضغوطة في تأسيس العلة التي يحاول من خلالها توصيف ما يروم اليه ، لذا / نجد الشاعر يميل الى استخدام التدرّج الفعلي ( حرّك / طرق / خشى / نطق / نظر ) تبعاً للنفسية التي اهتزّت - باطنياً - كردّة فعل ٍ متناسبة ، والحدث الضاغط .. أنها ( انصاف النخيل ) التي هي انعكاس طبيعي لفقدانية التكوين الحقيقي للأشياء .
( حينما تجلّت بين يديه ) مجموعة شعرية ، للشاعر( رحيم زاير الغانم ) ، صادرة عن دار الرسوم – بغداد الطبعة الاولى / 2015 ، والتي ضمّت ( 86 ) قصيدة ، طغت عليها مسحة البوح الخافت الذي يحاول الشاعر من خلاله ان يكون تسويق رؤاه في عالم تسوده التخيلية التي باتت تشكل ركنا مهما في تنضيد المداخلات الساخنة المحفّزة ، لذاك التفعيل الذاتي ، انها : حراك الروح ، وهي دفق تكويني لعالم الوجود ، او التأمل في ماهيات الأشياء المتلاشية بوسوسة منلوج الرحيل ، أو أنها الحسرات الموشحة بالتناسل الوهمي ، او منايا الاندثار الممزوجة بطعم خوف اللاهثين ، أو أنها مشاغبات نظر غارقة في عتمة العشق ، والظمأ الموشح بالهيام ، أنها : توسط لكارثة تثير فينا الوهن والنصب ، او تثير فينا الوجع والشكوى و إقترابات حائرة ، أو أنها رحى الخذلان وغيابات مترعة بالترك ، هكذا شاعت هرولة ( رحيم الغانم ) وهو يلتحف قصائده .
نقرأ له في ( الابحار ) :-
أما زال قصر الرمل
منحنيا على ساحلك الهش
متدليا من اعلى كوة
موحيا بالإبحار
إلى سواحل بعيدة ! ( ص 8 )
رغم أن ( قصر الرمل ) ما فيه تأطير وهمي للعلو ، إلا أن الشاعر استطاع منحه سمة الدلالة الإشارية التي اكسبها في انحناءته لذلك التكوين الممتد ، دون التحديد الجهويّ ، لأنه اراد من ذلك اعتماد مبدأ رسم التحويل الطبيعي لكينونية وماهية الأشياء وهي تغصّ بالمتناقضات الملتقطة في بؤرية النظرة للمشاهد / الفاعل .. المعتمدة على إحداثيات التمغنط ألانبعاثي من الذاتية المتخمة .
ثم نقرأ له :
أعدّ أطباق الوليمة
من طعم الخوف يتسوّر بها اللاهثون
علّه لا يأتي ...
يبعثها مزيّفة قاصداً وجه الله
لشراء الطوابع المجنحة . ( ص 19 / المنايا )
لم يك إلا طبقاً مُعدّاً في تكوينية التحديث التلقائي ، لطبيعة الإنسان الذي يحاول بشتى الطرائق أن يلوذ هرباً من المحتوم بأساليب مسارها واحد حتى وان تعدّدت أو اختلفت ، فنهاية الأمر / لا محالة يشكل انعطافة فـ ( أطباق الوليمة ، ما هي إلا / طعم الخوف ) هي الطوابع المزيفة ، التي اكتظت بالسواد / النفي المتخم بذاك النداء ( الصرير ) الذي يمثل / الاندثار ، فاللاهثون ، هم لا يملكون إلا وسيلة متأرجحة ، انه الزيف المبطن .
أما في قصيدة ( أعمى بصير ) نقرأ :
لم يرغب بالسمع
نكاية بالضجيج
لمح وجه أخيه
استفزه !!
فالصوت يخطف من الوجه صدقة . ( ص 35 )
( السّمع / الضّجيج ) يشكلان وحدة اتصالية ، وهما يلعبان دوراً مهماً في تنشيط ذلك الإرسال الخطابي التأثري ، أما هنا فالشاعر يحاول أن يتنازل عن هذه الحاسة المهمة ، أن يفقدها من صيرورتها التكوينية ، الأمر الذي يؤدي إلى تعطيل تام وشلّها ، وبالتالي إلى تدمير جزء حيوي فاعل لدى الإنسان ، اذا / سيتلاشى ذلك الضجيج ، بمجرد شيوع فقدان تلك الحاسة ، أما الرؤية التي يحاول الشاعر بثّها ( لمح وجه أخيه ) فهي ارتدادات لتجاذب تناسقي ، باطني متداخل بين الحواس .
في ( ولوج ) نقرأ :
وقد ترتوي
الأيام بالولوج
لأقف بعيداً
عن هرمون العزلة
مخلفاً
الغبش ورائي . ( ص 44 )
( العزلة ) إسقاطات تفريغية لما نحمله من ثقل المعاناة الغاصّة بالتكتيم والانطوائية ، التي هي نتاج الإحباطات المتتالية مما تؤدي الى تغييب قدرة الكائن عن الاتصالية بالآخر ، أو أنها نابعة عن تغييرات مزاجية خاصة بالفرد نفسه ، لخلق عالم افتراضي ، لتنصبّ في عزلة دائمية او اختيارية ، تثير فينا موجة من القلق والاضطراب الذهني ، ( الغانم ) يمتلك القدرة على الوقوف لمسافات نافرة عن ذلك ( الولوج ) ليصبح في منأى عن عزلة لم يجد فيها ضالته ، بل كانت الروح المتفائلة تسنده ، ليعلن براءته مما قد يلمّ به من تكوّرات حياتية .
في ( اعتذار ) :
آسف إن كنت بعيداً عن المك
آسف إن شاهدت الكلمات
وهي تذبل
آسف إن في حلمي الأخير
بدت صورتك غير واضحة الألوان
اعذرني فأنا غائب . ( ص 49 )
هنا نجد لغة الغياب ( أنا غائب ) فيها شحنات سلبية ، تطغى بشكل مباشر عبر خطابية مموّهة بعدم الوضوح الصوري ، والخذلان الباطني المكبوت ، لذا حاول الشاعر ( الغانم ) تكرار مفردة ( آسف ) ثلاث مرات ، وهو يجد في نفسه عراكاً لتراكمات ماضوية فاعلة / ضاغطة ، ان ( الحلم ) لديه غير واضح مشوش ، والصور بدت باهتة ، فلا نقطة التقاء ، ولا خارطة تحدّد ذلك الهوس المبحوح بـ ( اعذروني ) التي هي نقطة ضعف ووهن لبقايا وحدة خاوية ، توسدت قارعة الطريق ، لتتلاشى ملامحها الحقيقية وراء ضبابية الغياب .
في قصيدة ( باص ) :
برداء ممزق
استوقف
الباص عنوة
ادهش الركاب المرفهين
تبسّم ..
كأنه عبر الحدود
تقهقر للخلف
أنزلته نظراتهم
ليتذكر انه بغير جواز . ( ص 54 )
الضياع والدخول في متاهات مفتوحة لا نهاية لها ، تحيلنا إلى نظرة استباقية في قراءة دلالية ، لم يكلفه عناء التمزّق الباطني أن يجد في ذاته المسارات التي تحيله إلى ( تذكّر ) واع ٍ ، لعلها الإنشغالية فيما يعانيه من التخبطات ، وهو يغصّ بدهاليز حالكة ، فالانتقالية لديه مقيدة بأصفاد وأغلال موضوعة ، فالمسافات المتاحة ما هي إلا حرية ( جواز ) ، الذي يشكل منظومة انطلاق يسير على وفق أرضية مسطحة ، لا تعرجات فيها ولا تعقيدات ، فـ ( الرداء الممزّق ) يقابله اللا ( جواز ) دلالة مترابطة لحيثيات تآصرية ، ما بين الدخول والخروج .. وهو إيحاء لعدم الحيازة الكاملة في تخطي الوضعيات الحياتية .
أما في ( امرأة العنب ) نقرأ :
النزق دعانا للطيش
احتضنت عناقيدها بشدّة
مفتقاً للخصب حبّات العنب ..
محلياً شفاهها المرتبكة
في موسم القطاف . ( ص 72 )
( احتضان العناقيد ) فيه دلالة وصفية خارجية ، وإحساس بثورة النزق الذي يشكل مادة اشارية يعتمد عليها الشاعر ( الغانم ) لإضفاء نوع من التحديث الآني لذلك الاحتضان المرتبك ، بالتشويق وإثارة المتلقي في تتبع المفردة والتركيب ، لكي يحظى بـ ( موسم القطاف ) الذي تحول لديه من قطف مادي الى قطاف آخر محسوس ، لقد استطاع الشاعر بهذا أن يوظف هذه الصبغة الدلالية النامية ، الى صبغة تراكمية محاولاً من خلالها ان يسدّ الفراغات التي طفحت بذاك الخصب المحلّى بمجهولية المخاطب ، عله يستطيع ان يعوّض بقايا مواسمه المندلقة بلوعة الزمن لينتشي بلقاء مبحوح .
في قصيدة ( سيدتي ) :
قلبي
القهوة
الجمر
لأجلك يحترقون
من تفضلين
قلبي .. القهوة ... الجمر
ام يستهويك من ينضج اسرع . ( 99 )
بهذه الثلاثية ( قلبي / القهوة / الجمر ) يبث الشاعر ( الغانم ) تلك الهلامية الشفافة ليجعل القارئ في : ما الذي جمع هذه الثلاثية الغاصّة بلهب الاحتراق ؟ ! هل هو الاحتراق بعينه ام وحدة التفضيل ام النضوج الاسرع ؟ بذا كان عليه لزاماً ان يدخل في هذه الخطابية المباشرة كي يحوّل صيغه الى وحدات اتصالية متناسقة فيما بينها لان لها باعث مشترك حتى وان اختلف ، فـ ( سيدتي ) حاضن مشترك لـ ( قلبي / القهوة / الجمر ) مواد تفعيل لـ ( الاحتراق / التفضيل / النضوج الاسرع ) .
أنه يحدّد المرسلات هذه كي يزيح عنّا غشاوة ما يخفيه من الولع والاشتياق ، والترابط الروحي الذي تحول لديه الى لحظات تأمل ساكنة ، فارغة من المراوغة او التحايل الخطابي ، انه يعرف كيف يحدد الدلالة النصية الباعثة / الفاعلة في رصّ المفردات والتراكيب .
ان مجموعة ( حينما تجلّت بين يديه ) للشاعر ( رحيم زاير الغانم ) ، بكل ما تحمله من حمولات دلالية ، تتنفس بحراك ممشوق معطر ، وكأنها تطلق العنان للروح الضاجّة ، وهي تلامس ظمأ الانتزاع هي : سرّ للتأمل ، وثوران العاطفة ، عيون متخمة بشجاعة البكاء ، محطات للضياع والوداع ، صيحات مكبوتة ، أماني معطّلة ، بريق خطى نائمة ، رغبات النوى المهدد بالانقراض ، إنها تجليات صوفية في أبعاد المديات التأملية الموحية ، لتغرينا أنها تستحق القراءة والمغامرة في أُتونها ، وكفى .