تلونت لوحات أوربا الجميلة في عيون الناظرين إليها من بعيد، بقيت تزورهم في أحلام يقظتهم علهم، يعثرون فيها على ثغرة يحققون ما رسمته أخيلتهم المكتظة بالربيع الوردي، كثرت واختلفت قصص اللاجئين العابرين آلاف الكيلومترات والنتيجة واحدة، الكثير من الألم والتعب والخوف مما هو قادم في غدهم.
كانت ترجمةً لرسائل العالقين في عرض البحر، فقدوا الأمل أمام أقدارهم التي ابتلعت أرواحهم وهم يرتدون سترات النجاة من الحياة، كما يقول أحمد أحد اللاجئين الناجين من تلك القصص التعيسة، لكنها كانت سخيةً معه مقارنةً مع غيره من المغامرين فقد كتبت له النجاة.
أحمد أبن مدينة القامشلي شمال شرق سورية ذو العشرين عاماً الذي دفعه الخوف من شبح المستقبل الضبابي الملوح كما يقول منذ بداية أزمة البلاد أن يغامر ويعبر الحدود إلى مدينة نصيبين التركية المتاخمة للقامشلي من الطرف السوري قبل السنتين من اليوم ومجازفة السير بين الألغام المزروعة وراء أسلاك السياج الحدودي بين البلدين من جهة تركيا، في مغامرة تقل فيها فرص نجاح العبور، ويضيف :"كانت دوريات حرس الحدود التركي ما تسمى "الجندرما "،تجوب المكان أواخر فصل الخريف، كنت أنا والمهرب مع عائلتين ننتظر الدورية القادمة منتصف الليل، والبرد يأكل أطرافنا وأجسادنا ، نتربص الأضواء البعيدة القادمة، بانتظار دورية الساعة 12بعد منتصف الليل، حيث المهرب الذي يتقن اللغة التركية قد عقد صفقة مع الدورية ان يغضوا الطرف لقاء مبلغ مالي مقابل ضمان وصولنا بأمان إلى الأراضي التركية ، علها تكون اقل بكثير مما ندفعه نحن للمهرب الذي يرفع تسعيرته 1500 دولاراً للمجازف الواحد الذي قد يفقد حياته في كثير من الأحيان.
لكن الحكاية أخذت منحن أصعب مع جميل بوزو طالب جامعي من ريف مدينة "كوبانى " عين العرب بعد دخول داعش إلى مدينته، أجبرته وعائلته اللجوء إلى تركيا والاستقرار في مدينة أزمير المجاورة لشاطئ خليج إزمير، الممتد لبحر إيجة ، وزاد :"كغيري من الشباب سعيت وراء
الحلم الأوربي، احد المهربين الأتراك في ازمير ألتقيته في أحد مقاهيها على شاطئ المدينة كان يتكلم الكردية بطلاقة، طمأنني ووعدني ضمان وصولي اليونان بطريقة غير شرعية لقاء 2000يورو، وانطلقنا بعد منتصف ليل اليوم الثاني بالقارب المطاطي مع حوالي 53 شخصاً بينهم عائلات وأطفال ، كنا من مناطق مختلفة من العراق وسورية وكوردستان، وعلى أحد اللاجئين تولي قيادة القارب، واسمه أبو خليل سوري من حلب، رفع المهرب شكري باخوس إصبعه إلى الأمام، ليدلنا على الطريق، وأشار إلى أضواء بعيدة على إنها جزر اليونان، وبالفعل اجتزنا المياه الإقليمية حيثما أشار ".
بوزو تفاجأ مع المهاجرين الثلاثة والخمسين بأضواء اقتربت منهم قادمة من منتصف البحر ويضيف :" كان يختا مسرعاً فيها أشخاص يتحدثون لغة اقرب للإنكليزية، اقتربوا منا وهددونا بالسلاح ورفعوا محرك قاربنا المطاطي وربطوا قاربنا بيختهم واقتادونا مجدداً إلى المياه الإقليمية التركية ".
وأكد أبن كوباني أن أحد أشخاص اليخت المجهول عمد إلى ثقب القارب المطاطي "البلم "بآلة اقرب للسيف، وأضاف :" تركونا ورحلوا، المياه تسربت إلى قاربنا المطاطي، بقينا عالقين حوالي 6 ساعات وصراخ الأطفال وبكاء النساء افقدنا الأمل، وبدأ البحر يبتلع الأضعف منا، بدو كالدمى وهم يطفون على سطح البحر، كانوا أكثر من أربعين شخصاً، اغلبهم أطفال، رغم ارتدائنا سترات النجاة لكنها كانت تثقل بالمياه، ليلتهمنا البحر بدل أن نطفوا على سطحه، تخلينا عن ستراتنا واستمر بعضنا بالسباحة حتى عثرت علينا بعض السفن التركية ، وكنا من بين العشرة الذين كتب لهم النجاة ".
ازدياد عدد الضحايا من المهاجرين الغارقين في بحر ايجة دفع مراسل قناة نرويجية التشكيك والتحقيق وراء الأسباب الحقيقية الكائنة وراء الأرقام المخيفة التي تفصح عنها تقارير منظمات حكومية عالمية لأعداد الذين يلقون حتفهم بشكل شبه يومي، أثناء ركوبهم البحر بالقوارب المطاطية، والنتيجة كانت صادمة إثناء دخول المراسل كصفة لاجئ عبور ليكتشف إن سترات النجاة تحتوي بدل مادة الفلين على أخرى تثقل الوزن بمجرد ملامستها المياه و تجبر من يرتديها الغوص أكثر والغرق.
وكشفت صحيفة الغارديان عن وجود معملين في ميناء ازمير التركية، تقوم بصناعة سترات غير مطابقة للمواصفات وتبيع تلك المصانع حوالي 300 سترة نجاة بشكل شبه يومي، ثمن الواحدة منها 150 دولاراً ، لكنها لم توقف نزيف الهجرة التي يقلل الرئيس المشترك لهيئة الداخلية في مقاطعة الجزيرة التابعة للإدارة الذاتية الكردية في شمال سورية "كنعان بركات "،من
أهمية الأسباب التي تدفع المدنيين في مناطق الإدارة من بيع عقاراتهم وممتلكاتهم التي توفر لهم ثمن تذاكر الموت على حد زعمه، ويرى إن الهجرة حالة طبيعية تحصل في كل المناطق التي تتعرض لموجات حروب كارثية، يفقد فيها الأمان ويحل الدمار والخراب والمجازر والفظائع، ويؤكد أنها لا تنطبق على المقاطعات الثلاثة،(الجزيرة، كوباني، عفرين ) فقبضة الأمان التي فرضتها القوات الأمنية الكردية المعروفة باسم "الاسايش" ووحدات حماية الشعب، قلل من تلك الحجج الواهية التي يقنع بها المهاجرون أنفسهم للرحيل “،لكنه يراها حالة كارثية تدق ناقوس خطرها على أبواب الديمقراطية التي تسعى الإدارة إحلالها لتنعم بها كل مكونات المنطقة.
ويرى بركات إن الحالة الاقتصادية ليست هي من تسرع في وتيرة تيار الهجرة وتسبب خللاً في الحالة الاجتماعية المتجانسة، بل السبب السياسي هو الأهم وفق ما يراه، ويؤكد وجود شبكة مهربين عبر الحدود يعملون على تفريغ المنطقة من قاطنيها، عبر تهريبهم من المناطق الكردية إلى تركيا فاليونان ومنها إلى الدول الأوربية، وهي اللاعب الرئيسي حسبما أشار في تشجيع
الهجرة خلال تبنيها استقبال اللاجئين، ومن بينهم سميرسليم الطالب الجامعي في كلية الطب جامعة " دير الزور"، الذي لم يجد بداً عن الهجرة بديلا كما يقول، بعد إقدام احد عناصر داعش على إيقاف حافلة كان يقلها صديقه في طريق عودته من زيارة عائلته في مدينة القامشلي وإنزاله على طريق الميادين، ونحره بضربة سيف واحدة، ضارباً كل آماله في مستقبل كان يحلم أن يحقق فيه طموحاته بعد تخرجه من الجامعة.
فقد سمير كغيره من الشباب الأمل في إتمام دراستهم، وتخوفهم كما يقول من اعتقالهم من قبل قوات النظام وتسويقهم إلى الخدمة الإلزامية الهول الأكبر في الأزمة التي يواجها العديد من طلاب الجامعات السورية من الشباب.
وكخطوة مبدئية لحل هذه الأزمة أضاف كنعان بركات إن الإدارة عمدت إلى فتح جامعة في عفرين والقامشلي استقبلت الطلاب من مختلف نواحي عفرين والجزيرة وكوبانى. لكن احمد يرى الجامعة تحتاج لسنوات حتى تتمكن من إعداد موادها وبكافة الاختصاصات مع طاقم من دكاترة ومعيدي الجامعات وهذا يستغرق جهداً ووقت أطول قد يستفاد منه أطفالنا لا نحن كما يقول، ويرى ضرورة سعي الإدارة لعقد اتفاقات مع دول أوربية أو عربية، لإرسال طلاب المنطقة إلى جامعتهم شريطة عودتهم للوطن بعد التخرج وحصولهم على وظائف تناسب اختصاصهم.
وتضيف نالين أم لطفلين فقدت زوجها في أحد تفجيرات دمشق واضطرت للعودة إلى بلدة "كركى لكى" 65كم شرق القامشلي بعد تدهور الأوضاع الأمنية فيها واستشهاد رب العائلة تقول :أثقلت كاهل أبي وأخي، بعد عودتي أرملة، مع طفلي آلان وريبر، نواجه ظروف معيشية جد صعبة بسبب تدهور الحالة الاقتصادية، وزاد الطين بلاً بعد تبليغ أخي للالتحاق بالخدمة الذاتية، وهو المعيل الوحيد للعائلة، فإخوتي الآخرون لكل منهم زوجة وأولاد طلاب مدراس يحتاجون لمردود مادي كبير لإدارة شؤونهم اليومية.
ابحث ليل نهار عن فرصة عمل علني أؤمن قوت عائلتي بعد إصابة أبي بالديسك واضطراره للراحة وعدم العمل، الأمر الذي دفع أبي إلى التفكير ببيع البيت وتأمين الطريق لكردستان والعيش في المخيم هناك إن لم احصل على فرصة العمل التي يؤكد رئيس هيئة الداخلية بتوفرها بنسبة كبيرة ويستبعد أن تكون أهم الأسباب التي تدفع الأطباء والمحامون والمهندسون إلى ترك البلد، وانتقالهم عبر"معبر سيمالكا" الممر المائي الذي يوصل مقاطعة الجزيرة بكردستان العراق، الى دهوك ومنها إلى تركيا للسفر بحراً إلى أوروبا، لكن المعبر بات يستقبل لاسيما في الآونة
الأخيرة عشرات من جثث المهاجرين من أبناء المقاطعة المسافرين بحراً، الغارقين فيها بشكل شبه يومي، وتزايدها دفع الهيئة لاتخاذ قرار يلزم كل مسافر إلى إقليم كردستان، بإيجاد كفيلين أو ثلاث يكفلوه بمبلغ 400 ألف ل.س أي ما يعادل 800 دولاراً يدفعه الكفلاء أو يتعرضون للمسائلة القانونية التي تلزمهم بيع أحد ممتلكاته في المزاد إن لم يملك مبلغ الكفالة تلك، في حال عدم عودة المواطن ضمن مدة خمسة عشر يوماً قابلة للتمديد لعشرة أيام أذا حصل أمر طارئ.
القرار لاقى استياء العديد من المواطنين ومنهم أم فيصل سبعينية العمر،لغت فكرة السفر إلى الإقليم لزيارة ابنها الذي يقطن هناك منذ أكثر من سنة.
لكن القرار لقي صداه الإيجابي لدى صبري صاحب محل ألبسة، أب لطفلين، يتوقع لهما مستقبلا مزدهرا في البلاد،، ويقول :" فقد صديقي وزوجته و أطفالهم الأربعة حياتهم غرقاً في بحر اليونان، وأنا لن أبيع بيتي و كل ما املك في سبيل شراء تذاكر الموت لعائلتي وأطفالي”.