يستمرّ نبيل فازيو في البحث في الفكر السياسي الإسلامي، هذه المرة من خلال عمل جديد صدر عن "مؤسّسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، بعنوان "العدالة والعدل..مساهمة في تفكيك برادايم المُلك في الفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي".
يذكر نبيل فازيو، أستاذ الفلسفة في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، أنّه عندما يتعلّق الأمر بالفكر السياسي العربي، فإنّ التّأليف في موضوع العدل سرعان ما يتّخذ طابعا إشكاليا بحكم التضخّم المتزايد في الدراسات التي تناولَت التصوّر الغربيِّ للعدل، في مقابل نُدرَة الأعمال التي اتّخذت من التصوّر التراثي موضوعا لها.
ويضيف أنَّ هذا المعطى يُمَثِّلُ علامة من علامات المُفَارقَة التي تجثُم بظلِّها على تناوُلِ الفكر العربي المعاصر لمسألة العدل؛ فبقدر ما تكشف عن قلقٍ في مرجعية النّظر في هذا المفهوم، وتمزّقها بين قطبَي الفكر الغربي المعاصر والتراث العربي الإسلامي، فإنّها تُبَيِّنُ افتقار هذا الفكر إلى أرضية نظريّة صلبة، تنبُعُ من معاناته المزمنة مع راهنه.
وسواء استند الفكر العربي إلى مرجعية تراثية للتّفكير في العدالة أم إلى مرجعية غربية، حَسَبَ فازيو، فإن ذلك يكشف عن التوتُّر الذي ما انفكّ يسِم تناول هذا الفكر لأسئلة اجتماعه السياسي، وعجزه عن الحَسم في كثير من الإشكالات المتعلِّقة بها، التي يبقى العدل من أبرزها.
ويذكر الباحث أنّه لا يدّعي في كتابه هذا "تقديمَ تصوُّرٍ من شأنه أن يُخرِجَ الفكرَ السياسي العربي من هذا المأزق"، بقدر ما أن غايته "اقتراح استراتيجية لتفكيك مسألة العدل كما يمكن أن يطرحها علينا تراثنا العربي الإسلامي"، وهي استراتيجية من أسسها مساءَلة فكرة العدل من داخل دوائر "بارادايم المُلك" في الإسلام الكلاسيكي، التي يقصِدُ بها "الإطار النّظريّ والتّفسيريّ العام الذي حكم رؤية الفكر السياسي والأخلاقي الكلاسيكي في الإسلام، إلى السياسة ومجالها عامّة، وإلى العدل على وجه التّحديد".
ويبحث الأكاديمي المغربي في كتابه هذا عن "معالِم هذا البارادايم الذي ألقى بظلالِه على مختلف مستويات التفكير في إشكالية العَدْل، سواء ما تعلّق منها بمستوى توظيفه شعارا لمواجهة السّلطة، أو مستوى دراسة صورة الحاكم (المَلك) والقيم النّاظِمة لنفسه العادلة، أو بمستوى تأسيس المُلك وسياسته وإصلاحه، أو بالعقاب، وآليات الرقابة، والإخضاع...".
كما يزيد مبيّنا أنّ التّفكير في السياسة ظلَّ خاضعا على نحو خفِيٍّ في هذه المستوياتِ كلِّها لمقتضيات نموذجٍ ذهني حكم رؤية العقل الإسلامي الكلاسيكي للسياسة، الذي هو عينُه النموذج الذي أفرزه واقع المُلكِ وتجربته في التاريخ السياسي والاجتماعي الإسلامي، وهو ما فرض الرّبط في هذا الكتاب بين مفهومَي العدالة والمُلك؛ لأن استشكال العدل في ظلّ هذا الخضوع للنموذج الذهني الذي حكم رؤية العقل الإسلامي الكلاسيكي للسياسة، محاولة للتّفكير في هذا النّموذج من خلال التّموقُع داخل بعض مرتكزاته المتعلِّقَة بالتّدبير والسياسة المقترنة بهذا السؤال، على أمل "أن يكون مدخلا لتفكيك بارادايم المُلك، والإسهام في تعبيد الطّريق أمام الفكر السياسي العربي للإفلات من قبضته".
ويرى الباحث أنّ الإنصات لنصوص الفقهاء، ومحاولة الوعي بعلاقتها القلقة والمتوتِّرة بواقع المُلك، أهمّ سمات القراءة التي يقدّمها في بحثه عن مفهوم العدل عندهم، منطلقا في ذلك من اقتناع بأنّ "كتابات فقهاء السياسة كانت خير مرآة انعكَسَت فيها الثقافة السياسية الإسلامية في العصر الكلاسيكي؛ إذ عكَسَت محدِّدات رؤيَتِها إلى السياسة ومجالِها، وانعكَسَت فيها طموحات تلك الثّقافة، وتمزّقاتها الدّاخلية، ومعاناتها تجاه الزّمن والواقع".
كما يؤكّد فازيو، في كتابه الجديد، أنّ "التراث حاضر معنا، وينهل كثيرون مفاهيمهم وتصوّراتهم منهُ لتبرير الوضع السياسي وتسويغِه، ويأخذ منه من لم يتجرعوا بعد حقيقة الحاجة إلى الحداثة السياسية، ويعتمد على تأويله أصحاب أطروحة الدولة الإسلامية المستحيلة"؛ مما يجعل من مهمّة التفكير في التراث السياسي ونقده مسألة عاجلة اليوم، لا سيما بعد انبعاث قاموس الإسلام السياسي وتغَوُّلِه أكثر على مستوى الثقافة السياسية السائدة بعد أحداث ما عُرِف بـ"الرّبيع العربي".
ويضيف الباحث قائلا: "في مثل هذا الوضع يغدو التراث الإسلامي أُفُقا تحدّد على ضوئه مهمّة التّفكير في السياسة في العالَم العربي، طالما أنّ مفاهيمه ما تزال تشكِّل مقولات أساسية بالنسبة للفكر السياسي العربي المعاصِر"، وهو ما يسهل، وفق فازيو، "ملاحظة حضورِه في اللّغة السياسية اليوم في شكل تداول لقاموس سياسيٍّ يؤدّي دور الوساطة بين الذّهنِ والواقع".
هذا القاموس المتداول، حَسَبَ صاحب "دولة الفقهاء"، يفرض على الوعي التحرُّكَ في أفقه المُتَحَدِّر من التّراث وهواجِسِه، كما "يسهل على المرء أن ينتبِه إلى مفعول هذا التراث في التّشويش على إدراكنا لمفاهيم الحداثة السياسية؛ كالأمّة، والشّعب، والحقّ، والعدل، والقانون، والحرّيّة، والكرامة...".
ويوضّح الباحث أنّ "الخلط الحاصل بين دلالات هذه المفاهيم في سياقات نشأتها الغربية وبين دلالاتها في التّجربة السياسية الإسلامية الكلاسيكية"، علامة فارقة على هذا التّشويش، ثم يتساءل: "أيُّ معنى يتبقّى، والحال هاته، لعملٍ يكتفي بتقديم أفكار الحداثة السياسية للقارئ العربي دون أن ينتبه إلى أنَّ الوعي الجمعي مُحدَّدٌ مُسبَقا برؤى تضرب بجذورها في التراث والماضي، وتفرض نفسها في صوغ معنى الرّاهن وإدراكه؟"، قبل أن يستدرك موضّحا أنّ هذا السؤال لا ينفي أهمية مثل هذا العمل، بقدر ما ينبّه إلى خطورة الاكتفاء به وحده، والإعراض عن نقد التراث ومفاهيمه السياسية، وتعرية مفعوله في تلقّي أفكار الحداثة الغربية وتأويل مفاهيمها، ورصد كيفيات حضورِها في تضاعيف الراهن، ودورها في تحديد الوعي به، ونسج علاقة واعية به.
ويؤكّد نبيل فازيو، في مقدّمة كتابه، أنّ "التراث الإسلامي ليس ملكا لأحد"، ثم يسترسل موضّحا بالقول: "هو ليس ملكا للقراءة الأصولية التي عملت على تسويره واحتكار تأويله منذ عقود طويلة، ولا ملكا لغيرها من القراءات التي قدّمَها المستشرقون والدّارسون الغربيّون، أو غيرهم من أصحاب المشاريع الفكرية المؤثّثة لمشهد الفكر العربي المعاصر".
ويزيد قائلا: "لا يعني تحريرُ التراث انتزاعَه من أيدي الأصولية الإسلامية، والزّجّ به في قبضة أصولية، أو أصوليات، من نوع جديد، طالما أنّ تملُّكَه لا يعني امتلاكه وحيازَتَه؛ إذ لا فرق بين أصوليٍّ يدّعي السّدانَة على التراث والماضي، وحداثِيٍّ يدَّعي احتكار الحقّ في تأويل التّراث، وتسفيه رؤى غيرِه وشيطنتها".
كما يشدّدَ نبيل فازيو، في كتابه "العدالة والعدل"، على ضرورة "شقِّ دروب مختلفة في البحث عن معنى التراث السياسي الإسلامي، ومساءلَته على ضوء الأسئلة التي ما انفكَّ الرّاهن يطرحها علينا".
قد يهمك أيضًــــــــــا:
رسائل أحلام مستغانمي "إلى الذين لم يعد لهم من عناوين لنكتب إليهم"
أرسل تعليقك