أَمْلَت الناشطة المصرية اليسارية الشهيرة شاهِندة مَقْلَد على الكاتب الألماني غيرهارد هازه هندنبيرغ سيرة حياتها اعتماداً على ما جادت به ذاكرتها. وجعل الكاتب الألماني سيرة شاهندة مقلد الذاتية متزامنة مع أحداث ثورة 25 يناير التي أطاحت بحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. فجاء السرد متناوباً بين أحداث الماضي والحاضر التي شهدتها هذه الشخصية النسوية الشهيرة، التي دافعت عن حقوق الفلاحين وتعرضت للاعتقال والسجن والنفي. حسين الموزاني يسلط الضوء على كتاب "لن أنكسر": سيرة شاهندة مقلد الذاتية الصادرة باللغة الألمانية.
اقترن اسم مصر منذ القدم بنهر النيل وخصوبة الأرض والزراعة والفلاحين، حتى بات الفلاح يشكّل النقيض الاجتماعي الطبيعي للحاكم والفرعون. ويقسّم البعض مصر إلى طبقتين أساسيتين وهما الفراعنة والمزارعين أو الإقطاعين والفلاحين في لغة عصرنا.
وبلا شكّ أن هذا الاقتران يعود إلى طبيعة نهر النيل الذي لولاه لما كان لمصر وجود أصلاً، وكذلك إلى صغر المساحة التي يرويها النهر ويهبها الخصب والحياة. ونود الإشارة أيضاً إلى أنّ المساحة الكليّة لمصر تتجاوز مليون كيلومتر مربع، وهي ضعف مساحة فرنسا وثلاثة أضعاف مساحة ألمانيا تقريباً، لكن المساحة الصالحة للزراعة تبلغ نحو أربعين ألف كيلومتر مربع فقط. وباتت الأراضي الصالحة للزراعة تتمتع بأهمية خاصة لا سيما في ظل الانفجار السكّاني في مصر خلال العقود الأخيرة، إذ تجاوز عدد سكّانها تسعين مليون نسمة.
وكانت القضايا المتعلقة بالأرض والزراعة والفلاحين تحظى دائماً باهتمام الزعماء السياسيين في البلاد وتشكل أحد العوامل الرئيسية التي تحض على التمرّد والثورة والتغيير الاجتماعي. واستأثرت الواقعة المأساوية المعروفة باسم "حادثة دنشواي" باهتمام المصريين مطلع القرن العشرين. وتحدث الكاتب المصري محمود طاهر لاشين عن هذه الواقعة في روايته "عذراء دنشواي" التي صدرت للمرّة الأولى في عام 1909 ومهدت لظهور الرواية المصرية الحديثة في مصر وذلك قبل صدور راوية "زينب" لمحمد حسين هيكل في عام 1914 والتي تتناول الحياة في الريف المصري. وتتلخص حادثة دنشواي بأنّ ضابطاً بريطانياً كان يصطاد الحمام في هذه البلدة، فأطلق الرصاص وأصاب امرأة مصرية عن طريق الخطأ. وعندما استنجد زوجها بالفلاحين أطلق الضابط ومرافقوه الرصاص على الفلاحين فقتلوا ثلاثة رجال. ولاحق الفلاحون الضابط البريطاني وأردوه قتيلاً، لتقام بعد ذلك محاكمة صورية أسفرت عن إعدام أربعة فلاحين. وشغلت هذه الحادثة الرأي العام المصري فترة طويلة وكانت أحد أسباب اندلاع ثورة 1919. قضية الفلاحين هذه بالذات شكلّت جوهر حياة الناشطة السياسية المصرية شاهندة مقلد التي صدرت سيرتها الذاتية باللغة الألمانية تحت عنوان "لن أنكسر".
سيرة شاهندة مقلد...بقلم كاتب ألماني
وقد أملت شاهندة مقلد على الكاتب الألماني غيرهارد هازه-هندنبيرغ سيرة حياتها اعتماداً على ما جادت به ذاكرتها. وجعل الكاتب الألماني سيرة شاهندة مقلد الذاتية متزامنة مع أحداث الثورة الأخيرة التي أطاحت بحكم الرئيس الأسبق حسني مبارك. فجاء السرد متناوباً بين أحداث الماضي والحاضر التي شهدتها هذه الشخصية النسوية الشهيرة. وتختلف شاهندة مقلد عن معظم النساء المطالبات بالسفور وتحرر المرأة ومساواتها بالرجل مثل درية شفيق وهدى شعراوي ونوال السعداوي. ويتجلى الفرق الجوهري في أمر أساسي وهو أن مقلد أوقفت حياتها كلّها على الفلاحين ودافعت عن حقوقهم وتعرضت للاعتقال والسجن والنفي داخل مصر واضطرت إلى الاختفاء والعمل السرّي، وذلك على الرغم من أنها تنتمي إلى الطبقة الوسطى الميسورة مادياً. وكان والدها ضابطاً في الشرطة ومن أنصار حزب "الوفد" وكان رجلاً وطنياً ليبرالياً، يحبّ الفنّ والموسيقى، وكان يعزف أحياناً على آلة العود في منزله بعد عودته من عمله.
وعاشت الفتاة القروية القادمة من كمشيش الواقعة في محافظة المنوفية والمجاورة لقرية "ميت أبو الكوم" حيث ولد الرئيس المصري أنور السادات، حياةً اعتيادية في ظلّ وضع اجتماعي عرف بالتفاوت الطبقي منذ قرون طويلة. بيد أن الفتاة شاهندة قرأت بشكل مبكر كتباً ذات طابع اشتراكي، وحتى ماركسيّ، فحدث التحوّل الفكري الأول في صيرورتها، وبدت مستعدة نفسياً لتقبل الأفكار المغايرة والغريبة ربما على البيئة المصرية المتطامنة في منطقة الدلتا المترامية الأطراف. بيد أنّ هذا الاقتراب المتوجس في الفكر المنهجي الاشتراكي الماركسي، وفي طابعه التطبيقي الثوري بصورة أدقّ، ازداد رسوخاً وقوّة بعد ظهور زوجها المستقبلي وابن خالتها صلاح حسين. وكان صلاح حسين نفسه اشتراكياً ماركسياً ومسلماً مؤمناً وقد التحق في صفوف المقاتلين العرب أثناء حرب عام 1948 في فلسطين.
صراع شاهندة مقلد مع الإقطاع
وتقول شاهندة عن زوجها إنه كان يؤمن بالله ولم يهتم بالفلسفة المعادية للدين، بل كان يهتم بالدرجة الأولى بما قاله كارل ماركس عن الاستغلال وفائض القيمة والصراع الطبقي. وخاض الزوجان صراعاً مريراً مع بقايا الإقطاع في مصر والذي لم تقض عليه إصلاحات الرئيس جمال عبد الناصر وتوزيع الأراضي على الفلاحين الأجراء المحرومين من ملكية الأرض. ووقفت شاهندة مقلد إلى جانب هذه الإصلاحات وسياسة عبد الناصر عموماً. وركزت في صراعها مع الإقطاع على أسرة صلاح الفقي الذي يشترك اسمه مع اسم زوجها ورفيقها صلاح حسين. وتطوّرت المواجهة بين أنصار الفلاحين والإقطاعيين وانتهت بمقتل صلاح حسين في الرابع من نيسان/ أبريل عام 1966 بعد فترة قصيرة من إنجاب شاهندة لابنتها بسمة. فهرعت الأرملة ذات السبعة والعشرين عاماً إلى مكان الحادث وشاركت في تشييع جنازة زوجها القتيل، متوعدة بمواصلة نضاله من أجل الفلاحين.
وتصف شاهندة تفاصيل مقتل زوجها على النحو التالي: "بعد ستة أسابيع من ولادة بسمة وفي صباح يوم شم النسيم انطلق صلاح إلى القاهرة ليلتقي بممثلي فلاحي كمشيش في مبنى الاتحاد الاشتراكي. وصاغ معهم بياناً موجهاً إلى عبد الناصر يناشدون فيه الرئيس تقديم الدعم لهم فيما يتعلق بإقامة مستشفى محليّ ومركز ثقافي في منزل صلاح الفقي، لأنّ المنزل سيكون خالياً عما قريب بعد أن شيّد صاحبه منزلاً جديداً له خارج كمشيش. وعرفت فيما بعد بأن هذه العريضة تناولت تفاصيل أكثر مما كان مقرراً لها، لأن صلاح لم يوقف مطالبه على هذه القضية وحدها، إنما انتقد فساد الجهاز الحكومي. وتنبأ قبل كلّ شيء بوقوع هجوم إسرائيلي على بلدنا. ثم اتصل بي صلاح بعدما فرغ من العريضة. وقال إنه سيصل إلى الدار مساءً. لكنه سيمرّ بكمشيش قبل ذلك ليبلغ الفلاحين بتفاصيل المركز الثقافي. غير أنه لم يعد إلى الدار حتّى بعد أن تجاوزت الساعة الواحدة بعد منتصف الليل".
ولم تعترف عائلة الفقي بتدبير حادث الاغتيال، وأعزته إلى مشاجرة عائلية واتهمت الحكومة المصرية بتزييف الوقائع لمجرد أن صلاح حسين كان عضواً في الاتحاد الاشتراكي المقرّب من عبد الناصر. والقت الشرطة المصرية على عشرات المتهمين بعملية الاغتيال. وذكر أنّ عدد المعتقلين بلغ آنذاك ثلاثمئة وأربعة عشر شخصاً. بيد أن القاتل الذي ألقي عليه القبض واعترف بجريمته لم يمض في السجن سوى سنوات قليلة ثم أفرج عنه.
هذه الواقعة المأساوية لم تثن شاهندة مقلد من مواصلة نضالها من أجل قضية الفلاحين ومحاربة الإقطاع، مستلهمةً هذه المرّة روح التضحية والشجاعة التي أظهرها زوجها القتيل، خاصةً بعد استلام السادات السلطة ووقوفه المباشر إلى جانب الإقطاع وأسرة الفقي بالذات التي كانت تربطه بها علاقة شخصية بحكم الجوار. فكُتب على الأرملة أن تخوض الصراع بمفردها وتربي أبناءها الثلاثة في الوقت نفسه، وذلك بإمكانات مالية شحيحة وفي ظلّ ظروف صعبة وسلطة جائرة كانت غالباً ما تخضعها إلى الإقامة الجبرية أو السجن، ولاسيما في عهد الرئيس أنور السادات.
وحظيت حادثة الاغتيال السياسي باهتمام كبير داخل مصر وخارجها، في وقت كانت فيه مصر منغلقة نسبياً أمام الصحافة العالمية. فكتب مراسل وكالة "تاس" السوفيتية يفغنين بريماكوف الذي أصبح رئيساً للوزراء في روسيا بعد ثلاثين عاماً من هذه الحادثة تقريراً من كمشيش، ونشر الصحفي المصري الأصل جاك رولان الذي كان يرتبط بعلاقة شخصية مع عبد الناصر، صفحةً كاملةً في جريدة "لوموند" الفرنسية تعرض فيها لعملية الاغتيال. وبعدما أطلع الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر على هذه الوقائع قرر مع سيمون دي بوفوار زيارة قرية كمشيش. وشاءت الصدفة أيضاً أن تلتقي شاهندة مقلد بأشهر مناضل ثوري عرفه التاريخ الحديث وهو أرنستو تشي غيفارا. وقد حدث اللقاء على النحو التالي: كان عبد الناصر يرافق غيفارا ليطلعه على إنجازات "ثورة يونيو" فدعي الاثنان لتناول طعام الغداء في منزل السادات بقرية ميت أبو الكوم لينتهي برنامج زيارة الثائر العالمي بمؤتمر يعقد في قرية شبين الكوم.
شاهندة تسلم رسالة الفلاحين لعبد الناصر وغيفارا وتتحدث إلى سارتر
وكان على الموكب أنّ يمّر بقرية كمشيش المجاورة. فاستغلت شاهندة مقلد الفرصة وأحضرت مع عدد من الفلاحين المتعلمين لافتة ووقفوا على جسر في طريق الموكب كتب عليها: "نحن معزولون عنك منذ سنوات يا جمال عبد الناصر، وممنوعون من الكلام معك. ونحن نمثل هنا قريةً ثورية ونقف إلى جانبك". وعندما توقفت سيارة عبد الناصر عند الجسر هتفت به شاهندة مقلد "نريد أن نتحدث إليك يا عبد الناصر". فانتفض عبد الناصر من مقعده. وبعدما اقتربت شاهندة من سيارته المكشوفة رأت غيفارا يجلس إلى جانبه. وقد جاء الثائر العالمي ليؤسس جيشاً أفريقياً لتحرير الكونغو وبدعم من الرئيس المصري. وصافحت شاهندة عبد الناصر وضيفه وسملت رسالة الفلاحين إلى الرئيس ثم خاطبت غيفارا بالقول: "نحن فلاحو قرية كمشيش، وهم سكّان القرية الثورية!" وبعدما ترجم كلامها إلى غيفارا هبّ واقفاً ورفع قبضته تحيةً لها، فاطلق الفلاحون عاصفة من الهتافات والتصفيق دون أن يعرفوا هوية الضيف الثوري الأسطوري.
وإذا ما كان اللقاء بغيفارا لقاء عرضياً، فإن زيارة سارتر كان مخططاً لها تماماً وكادت تقتصر على قرية كمشيش وحدها، والإعراب عن التضامن مع أهلها ومع شاهندة مقلد بصورة خاصة والتي حضّرت للفيلسوف الوجودي الشهير عدداً من الأسئلة المتعلقة بهموم الفلاحين وقريتهم. ومنها: كيف اطلعت على أوضاع قريتنا؟ وبأي شعور أتيت إلى كمشيش؟ فأجاب سارتر بأنه قرأ تقريرا عن كمشيش في صحيفة فرنسية، فأراد أن يعرف حقيقة ما يحدث هنا في هذه القرية. وقال إنّه جاء بمشاعر متناقضة، فكان يشعر بالحزن من ناحية، بسبب مقتل أحد قادة الفلاحين برصاص أحد كبار الإقطاعيين. لكنه أظهر إعجابه بشجاعة الفلاحين من ناحية أخرى، لأنهم لم يستسلموا للأمر الواقع. وقال إنه سعيد للغاية في وجوده بينهم ورؤية إصرارهم على مواصلة النضال. وعندما طرحت شاهندة مقلد على سارتر سؤالاً يتعلق بموقفه "من نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني" لا سميا وأنّه كان مناصراً للثورة الجزائرية، أجاب بشكل غير مباشر بأنه "يتضامن مع جميع المناضلين من أجل الحرية في جميع أنحاء العالم".
كذلك جمال عبد الناصر أشارَ في خطابه السنوي بمناسبة "عيد العمّال" إلى حادثة اغتيال صلاح حسين واعتبرها "دليلاً مؤلماً على عدم تقدير الحكومة للخطر الذي يمثله أعداء الثورة" على حدّ تعبيره. بيد أن السيرة الذاتية لشاهندة مقلد اتخذت منحى أكثر مأساوية من ذي قبل، بعد استشهاد شقيقها في حرب الاستنزاف مع إسرائيل في عام 1970 وكان طيّاراً، ومقتل ابنها الأصغر في ظروف غامضة بالعاصمة الروسية موسكو حيث كان يقيم.
هذه السلسة من الإخفاقات السياسية والنكبات الشخصية تركت آثارها العميقة على نفسية هذه المرأة الصلدة التي أفنت جلّ حياتها في مقارعة الظلم الاجتماعي والاستغلال الاقتصادي للمرأة المصرية والعربية عموماً، وجعلتها تشعر باليأس والإحباط. فأصبحت "سياسياً بلا وطن" على حدّ تعبيرها، خاصة بعد أن تحول حزب "التجمّع" المصري الذي انتمت إليه إلى "نمر من ورق" واستمرت على هذا المنوال ثلاث سنوات كاملة كما لو أنها في غرفة إنعاش سياسيّ، إلى أن جاءت ثورة "شباب جيل الفيسبوك" التي حررتها من عزلتها وسباتها ويأسها. وتلخّص شاهندة مقلد، التي أشتد عودها وأصبحت أكثر صلابة حتّى من سنوات شبابها، تجربتها السياسية التي تمتد إلى خمسة عقود، بالقول إن "الثورة ليس إلا بداية جديدة في طريق لن ينتهي". وتعبّر عن قناعتها بأنّ هذه الثورة ستولّد الرجل أو المرأة المناسبة التي يختارها الشعب لقيادة مصر الحرّة والمتحررة، وستناضل من أجل أجل تحقيق ذلك طيلة حياتها.
أرسل تعليقك