الدار البيضاء- لمياء بحرالدين
يحاول العلماء و الباحثون باستماتة الغوص في أعماق العقل البشري وخصوصا عقل المجرم، مصرين بذلك على كشف الأسباب العصبية التي تكمن وراء ارتكابهم للجرائم، خصوصا في ضوء ارتفاع معدل الجرائم في العالم أجمع، فمنذ وجود الشر، و الإنسان لا ينفك يتساءل عن بؤرته و مصدره، وقد لا يحتاج المرء إلى أن يكون على علم واسع ليستنتج أن أول مكان يجب البحث فيه هو الدماغ البشري، لكن هل سيتوصل العلماء إلى إجابة
عن سؤال: ماذا يدور في عقل المجرم؟
ليس للقتلة المجانين قدرة كبيرة على الاعتراف بالجميل وإبداء الشعور بالامتنان، ولكن إذا ما توجب عليهم تقديم كلمة شكر، فالمفروض أن تكون تجاه "شارلز وايتمان''، سنة 1996 ، كان وايتمان الطالب المهندس والبحري السابق، في الخامس والعشرين من عمره حين قام باغتيال 17 شخصا و أصاب 32 آخرين إصابات بليغة، في إطلاق نار مكثف بجامعة تكساس قبل أن يسقط برصاص رجال الشرطة، فيما قام في وقت سابق ذلك اليوم، بقتل والدته وزوجته.
أثناء بحثهم عن الدوافع التي أدت بوايتمان لارتكاب المجزرة البشعة، توصل المحققون إلى رسالة انتحار تركها المجرم خلفه، وتحمل في طياتها أجوبة على أسئلتهم:
"لست أفهم نفسي في هذه الفترة الأخيرة، فمن المفروض أن أكون شخصا عاقلا و ذكيا، إلا أنه أخيرا (لا أتذكر منذ متى على وجه التحديد) صارت تراودني أفكار و وساوس غير عادية، أرجو أن تتم تأدية ديوني والتبرع بما تبقى من المال لمنظمة تعنى بالصحة العقلية، فربما تتوصل الأبحاث في المستقبل إلى حلول لتجنب حدوث مثل هذه التراجيديا ".
بعد مدة، تم تحقيق أمنية وايتمان، وبموافقة من عائلته، تم تشريح جثة وايتمان، وهو ما كشف للمحققين عن إصابته بورم إلى جانب وجود تشوه في الأوعية الدموية في "الفص الدماغي" و هو الجزء الأولي الأصغر في الدماغ و المسؤول عن التحكم في العواطف.
و من ثمة خلصت لجنة من المحققين إلى أنه من المحتمل أن يكون الورم قد أدى بتحفيز الدماغ على إطلاق النار، مما دفع بهم إلى التساؤل بشأن ما إذا كان كل القتلة يعانون خطبا ما في أدمغتهم؟.
منذ وجود الشر، و الإنسان لا ينفك يتساءل عن بؤرته و مصدره، وقد لا يحتاج المرء إلى أن يكون على علم واسع ليستنتج أن أول مكان يجب البحث فيه هو الدماغ البشري.
فالدماغ يدون بكل تفصيل أي شيء وكل شيء يقوم به الإنسان طيلة حياته، بما أن كل الأحداث تترك أثرها في شبكة الدماغ الذي يقوم بالتخزين و الحفر فيها بدقة متناهية، متيحا للآلة البشرية بالعمل.
وبالتالي إذا ما حدث وفقدت هذه الآلة السيطرة، بسب خطب ما في الدماغ، هل هذا يعني أن المرء سيكون مسؤولا عن سلوكياته؟
يتضمن هذا التساؤل أكثر من الدلالات الفلسفية بكثير.
جعلوني مجرما
منذ أيام قليلة تم تحديد هوية الأخوين تسارناييف بصفتهما مسؤولان عن انفجار ماراثون بوسطن، وظهرت تكهنات بشأن ما إذا كان يختفي وراء سلوكات الأخ الأكبر تامرلان تشوه عقلي ناجم عن ضربة تلقاها خلال سنوات ممارسته للملاكمة.
وسرعان ما جاءت الإجابة بالنفي: فالإصابات التي يتعرض لها الدماغ أثناء ممارسة الرياضة تؤدي إلى تقلب واندفاع في تصرفات الأشخاص في عمره، في الوقت الذي تم فيه التخطيط للتفجير ببرودة وعناية فائقة.
بيد أن التاريخ الطبي لعدد لا يحصى من القتلة و المجرمين العنيفين، كشف عن جميع أشكال الأمراض والأورام الدماغية، مما يطرح فرضيتين، أولاهما تقر أن المتهمين يتحملون كامل المسؤولية في الجرائم التي ارتكبوها، أما الفرضية الثانية فتقول إنه إذا ما كانت تلك الأفعال الإجرامية ناجمة فعلا عن تشوهات في الدماغ فعلى الأرجح أنه كان يمكن تفاديها إذا ما كان قد تم علاجها.
وقال عالم الأعصاب في جامعة ماديسون ويسكونسين ميشيل كونيغس إنه لا يمكن التنبؤ بأي نشاط عصبي مئة بالمائة، مضيفا '' غير أنه حين يعلم المرضى النفسيون أن ما يقومون به يعد جريمة فهذا لا يعني أنهم يتحكمون في سلوكهم أثناء التنفيذ بعد ذلك''.
حتى قبل أن تدرج حالة وايتمان في النصوص الطبية، اضطلع العلماء على حالة فينيس كاغ، عامل السكة الحديد البالغ من العمر 25 عاما ، الذي كان سنة 1848 يساعد في أشغال تثبيت خط جديد للسكة الحديد في فيرمونت حين طار قضيب حديدي جراء انفجار مباغت، ليصيب كاغ مباشرة في الفص الأيمن من رأسه وعظمة وجنته، بأعجوبة نجا كاغ من موت محقق، كما لم يفقد جسمه بعضا من وظائفه. و لكنه بعد أن أزال الضمادات، تم رصد تحول جذري مفاجئ في شخصيته. حيث تحول من شاب هادئ و مؤدب إلى آخر مندفع و عدائي و متوحش.
كان أول ما شد انتباه العلماء هو علاقة هذا التحول السلوكي بالصدمة التي تلقاها الدماغ.
وأوضح انه "كان يمكن لنا أن نتصور أن الدماغ قد تحسن بكشفنا لما ظهر من التشوهات الناجمة عن الإصابة بقضيب حديدي في الجمجمة، ولكن التشوه في حقيقة الأمر كان أعمق من ذلك."
هل أنت مشروع مجرم؟
في عام 2003، تم نشر قضية في كتاب ''أرشيف علم الأعصاب'' تتحدث عن حالة أستاذ في مدرسة بولاية فيرجينيا الأمريكية يبلغ من العمر 40 سنة، و الذي لم تكن له أية سوابق حول ميولاته الجنسية تجاه الأطفال. إلا أنه فجأة أبدى اهتماما ببونوغرافية الأطفال و بدأ بالتحرش بابنة زوجته. أبلغت به زوجته الشرطة و تم توقيفه و إخضاعه لبرنامج يشمل 12 خطوة خاص بمرتكبي جرائم جنسية. لكنه فشل في إتباع البرنامج فتم إيداعه السجن.
يوما واحدا قبل ذلك، كان على وشك الاستسلام حين فاجأه صداع رهيب في رأسه مصاحب بأعراض اضطراب في الأعصاب، توجه على إثره إلى قسم المستعجلات. قام الأطباء بفحص دماغه ليكتشفوا ورما بحجم البيضة يسار القشرة الدماغية، و هي المنطقة المسؤولة عن اتخاذ القرارات أو ما تعرف باسم الوظائف التنفيذية. تم استئصال الورم و تخلص معه الأستاذ من دوافعه الجنسية المرضية. لكن في أقل من سنة إثر ذلك، عاد الورم للظهور و كما كان متوقعا، عادت معه معاناته مع مرض البيدوفيليا.
وتؤكد أستاذة في القانون و علم النفس بجامعة بينسلفينيا ستيفان جون مورس، على أنه لا توجد منطقة واحدة في الدماغ للبيدوفيليا، مضيفة أن تشوه الفص الأمامي للقشرة الدماغية معروف بعلاقته بالسلوك الفاضح للفرد. وزادت ذات المتحدثة على أنه من المعروف أن الأشكال المختلفة للتشوهات التي تصيب الدماغ قد تؤدي إلى صعوبات في استخدام المنطق.
وكشفت دراسات حديثة على أن جذور الإجرام مرتبطة بمناطق مختلفة في الدماغ. وبحسب ما ورد في تقرير أنجزته مايا سالافيتز، نشر في موقع تايم.كم time.com
فقد قام فريق من الباحثين تحت إشراف أستاذ علم النفس بجامعة نيو ميكسيكو، كينت كيهيل، بإجراء كشف بالرنين المغناطيسي على دماغ 96 ذكرا تم توقيفهم لمدة عام على الأقل لارتكابهم جرائم تتنوع بين السرقة و بيع المخدرات و الاعتداء.
وطلب من الذكور الذين خضعوا للكشف بالاستمرار في الضغط على زر الكومبيوتر عند ظهور الحرف X على الشاشة و الامتناع عن الضغط عند رؤية الحرف K. وبما أن حرف X كان يظهر بنسبة 84 بالمائة، و بما أن الحرفان K وX يتشابهان على نحو بغيض، فإنه كان من السهل على المختبرين أن يعتادوا الضغط المتكرر على أزرار الحاسوب. إذ تتطلب القدرة على تفادي الضغط المفرط على زر الكمبيوتر استدعاء آليات التحكم في الاندفاع و هي وظيفة منوطة بمنطقة في الدماغ تعرف تحت اسم القشرة الحزامية الأمامية.
وتبين أن السجناء الذين فشلوا في الاختبار، ينخفض لديهم نشاط القشرة الحزامية الأمامية في حين أظهر أولئك الذين نجحوا في الاختبار ذاته نشاطا أكبر لتلك المنطقة من الدماغ.
قام الدكتور كيهيل بتعقب كل المساجين طيلة أربع سنوات بعد إطلاق سراحهم، فوجد أن أصحاب القشرة الحزامية الأمامية الكسولة كانوا على وشك العودة إلى السجن أربع مرات أكثر من الفئة الأخرى.
إذا كنت تفتقد القدرة على السيطرة على وتيرة النقر، فإن الدراسة تخبرك أنه من المحتمل أن تتعرض لصعوبات في التحكم في اندفاعاتك مما قد يخلق لك مواجهات مع القانون.
التنبؤ بالجرائم: والآن ممكن
يؤكد د. كيهيل في رسالة إلكترونية لموقع تايم على أنه " ستخرج العديد من التقارير قريبا لإبراز كيف يمكن للرنين المغناطيسي الوظائفي أن يتنبأ بمن يمكنه أن يرتكب الجرائم" ، و أضاف الدكتور'' نحن الآن بصدد إجراء اختبارات للأدوية التي ترفع من نشاط القشرة الحزامية الأمامية، و الهدف من وراء ذلك هو الحصول على وسيلة تمكننا من تحديد العلاج الأنجع لتقليص الإصابة بانتكاسة".
أجرى الدكتور كوهينغز، الذي سبق له أن تعاون مع الدكتور كيهيل، اختبارات جديدة على المساجين رابطا بذلك بين اللوزة الدماغية والقشرة الحزامية الأمامية و احتمال مسؤولية هذه العلاقة عن التحريض على الجريمة. وتعد اللوزة الدماغية بمثابة الطفل العاق لهذا الثنائي: مركز الخوف و الشك و الغضب و غيرها من الانفعالات في الدماغ. في الحقيقة، لا يمكن اعتبار هذه الأحاسيس مشاعر سيئة، فقبل كل شيء فإن الوطاء الباطني قادر على القيام بالمهام المنوطة به و من ضمنها الحرس على قيادة اللوزة الدماغية.
وأشرف الدكتور كوهينغز على مجموعتين من المساجين المتطوعين تحت حراسة أمنية مشددة ويتعلق الأمر بمجموعة تضم مساجين يعانون من خلل نفسي فيما ضمت المجموعة الثانية مساجين سليمين.
في الاختبارين الأوليين، قام كوهينغز بإجراء تصوير مقطعي مغناطيسي على أدمغة المتطوعين ، وهي نوع من الرنين المغناطيسي التي تكشف مدى تفاعل جزيئات الماء مع الأنسجة. في هذه الحالة، كان يحاول معرفة مدى سلامة و صحة المادة البيضاء التي تحمي الدوائر العصبية المتصلة بالوطاء الباطني و اللوزة الدماغية. أما في الاختبار الموالي، فقد استعمل الرنين المغناطيسي الوظائفي للقيام بدراسة مباشرة حول كيفية التواصل بين منطقتين في الدماغ. في كلتا الحالتين، كان دماغ المرضى النفسيين في حالة مزرية مقابل أدمغة المساجين السليمين مع نقص في إفراز المادة البيضاء فيما يقوم العصب البيني بعمل ضئيل لتحويل الإشارات.
ويقول كوهينغز إنه ''يمكن اعتبار نتائج هذه الدراسة بمثابة آلية للربط بين بنيتين" و إن'' انعدام الشفقة و العنف الذي يظهره المرضى النفسيون تجاه ضحاياهم، قد يكون راجعا لتواصل متذبذب بين منطقتين في الدماغ"
كثير من الدراسات قليل من النتائج
دراسات مشابهة حاولت الغوص في ميكانيزمات وجذور الجريمة. فالأنزيمات معروفة على أنها مزيج من أحادي الأمين الذي يعد أساسيا لبقاء السلوك البشري تحت المراقبة ولتدمير الناقلات العصبية كالسيروتونين والدوبامين كما يحرص على التوازن الكيميائي للدماغ. وقد تبين أن الأطفال الرضع الذين يولدون مع خلل في أحادي الأمين – الجينة المسؤولة عن هذا الخلل تدعى بالجينة المحاربة – قد يتعرضون لخطر إظهار سلوكات لا اجتماعية لاحقا في حياتهم، تسع مرات أكثر من الرضع السليمين.
و في سياق متصل، وجد أدريان رايان، أستاذ علم الإجرام بجامعة بنسيلفينيا، أن الأطفال أقل من الستة أشهر، و الذين يتوفرون على بنية في الدماغ تعرف بتجويف الحاجز المشف - فجوة صغيرة شفافة تقع بين الفصين الأيمن و الأيسر للدماغ- معرضون أكثر من غيرهم لتطوير سلوكات فوضوية و مواجهة تهديد التوقيف و الاعتقال.كل ذلك يجعل من الصعب تفنيد أن يكون للأعصاب دور في التحفيز على ارتكاب جرائم العنف، ولكن كل الحالات السابقة تدفعنا حتما لطرح تساؤل قوي: وماذا بعد؟ لسبب واحد، الشذوذ العقلي هو جزء فقط من أحجية الإجرام. حيث قد تلعب جينة أحادي الأمين الفاسدة أدوارا في حياة الإجرام المستقبلية و لكن في أغلب الحالات يحصل ذلك عند تعرضهم لشكل من أشكال الاعتداء أو الصدمة أثناء طفولتهم. في الوقت الذي قد يتحمل فيه الأطفال الذي يعانون من تشوهات جينية و لكن طفولتهم كانت مستقرة، الاندفاعات الناجمة عن هذا التشوه، بشكل أفضل.
كوهينغز وجد تقاطعات كثيرة بين مشاكل بالوطاء الباطني و اللوزة الدماغية، ولكنه أقر بعدم إلقائه نظرة إلى أدمغة هؤلاء الرجال إلى أن بلغوا سن الثلاثين، أي بعد فوات الأوان. "لقد عاشوا دهرا من العزلة الاجتماعية، و غاصوا في أتون المخدرات و الكحول، لقد حانت ساعتهم". يتحسر كوهينغز قبل أن يردف '' لا يمكن أن نحدد ماذا أنتج ماذا" .
و حتى في حالة الأستاذ الذي تحرش بربيبته، فإن التشخيص كشف خلوه من أي تشوه قبل إصابته بالورم، إلا أن سلوكه كان خفيا '' كان لا يقترب من ابنة زوجته إلا أثناء غياب هذه الأخيرة، كما لم تلاحظ لا هي و لا زملاؤه في المدرسة أية مشاكل من هذا القبيل" تقول مورس، قبل أن تؤكد "من الواضح أنه كان قادرا على التحكم في سلوكه أو على الأقل في بعض قدراته العقلية أمام الملأ. إذ لا يمكن أن ننكر مسؤوليته عن تصرفاته و أن نقول إن الورم وحده وراء ميوله الشاذة تجاه الأطفال".
و مع تفشي ظاهرة الاعتداء على الأطفال بات بوتيرة خطيرة، بات لزاما تكثيف البحث و تعميقه في المسببات الاجتماعية و النفسية التي قد تكون وراء استفحال الظاهرة.
أرسل تعليقك