يقدم كتاب «الخيال السياسي للإسلاميين ما قبل الدولة وما بعدها»، لمؤلفته د. هبة رؤوف عزت، سبراً وتحليلاً نقديين لأفكار حقبة مهمة سبقت الربيع العربي، إذ تُعين المعلومات المقدمة على فهم أسباب الارتباك في الإدارة السياسية، والعلل الكامنة في بنية الدولة الحديثة، التي لم ينتبه إليها القطاع الأوسع من التيار الإسلامي، وظنَّ أنها حصن يمكن الاستيلاء عليه..
في حين أنَّ الفهم الناجع للدولة يحتاج إلى فهم جملة قضايا جذرية حول مصلحة المجتمع وأساسيات احتياجات الناس، وشروط كل مرحلة نريد أن نقطعها من أجل التغيير، كي لا تضيع الغاية ولا تُفقد البوصلة. وتطرق هبة عزت مجموع هذه القضايا، من منطلق علمي منهجي، عارضة لحيثياتها على مدى أربعة فصول هي:
من ظاهر الجدل السياسي إلى البحث في آفاق المعنى، مساحة المنار الجديد: خرائط التفكير ولغة التعبير، ما وراء الخطاب: خريطة النسق وفضاء المرجعيات وحدود الخيال، ماذا لو.. «أرأيت لو أنَّ كذا لكان كذا/ مستقبل الخيال وتخيل المستقبل».
وترى الباحثة د. هبة عزت، أن ما هو ضروري وملح اليوم استعادة شرعية التفكير في مجتمعاتنا، رد الاعتبار إلى مفهوم الحِكمة قبل التجادل حول منظومة الحكم، وفتح ملف الدولة الحديثة التي تركها المحتل الأوروبي على أنقاض دولة ومجتمع لهما تاريخ وتصور مختلف للعالم.
فخطاباتنا الإسلامية لا تزال تدور في أغلبيتها في دائرة مقارنة الشورى بالديمقراطية، والتساؤل عن مدى شرعية تقبُّل الإسلاميين العملَ الحزبي وتداول السلطة سلمياً، ذلك في عصر تُقدِّم الليبرالية نفسها بقوَّة الآلة العسكرية للإمبراطورية الأميركية والناتو، باعتبارها منظومة فكرية منتصرة - نهاية التاريخ -، ومثالية كذلك، مُعطية قِيَمَها في الخطاب الفكري والسياسي منزلةَ المرجعية، وأحياناً سقفَ الجدل وحدوده.
وتطرح الكاتبة علاقة العلمانية بالدين، وترى أنَّ الجدل بينهما هو أكثر سخونة، لأنه يتعلَّق بالدولة والحاكم، وليس بالإدارة السياسية. وتدرج تفسيرات العلمانية من قبل الإسلاميين انطلاقاً من نقطة كونها تركز على تحكيم العقل.
وتؤكد المؤلفة أن تلك فكرة تنظر إلى العلمانية – قسراً وقصراً - في سياقها الأوروبي، وهي للطرافة تمثل الوجه المقابل للعلمانية المتطرِّفة التي ترى في العلمانية المَخرَج التاريخي من التنازع السياسي والتخلف الاقتصادي، باعتبار أنَّ أوروبا هي مستقبل العالم، فتقوم تلك الرؤية الإسلامية بحبس دلالات العلمانية ومعانيها في الخبرة الغربية.
وتطلعنا هبة عزت على منظور وفهم الإسلاميين وتبنيهم لفكرة أنَّ المسألة الجدلية: العلمانية وفصل الإسلام عن السياسة، أنشأها الاستعمار لإضعاف الأمة منذ بداية القرن العشرين، وتصاعدَ تجدد هذا الجدل في العقود الماضية حتى لا تسترد الأمة شريعتها وتعود إلى الإسلام ريادته فدولته.. فخلافته. وتؤكد عقب عرض هذه الفكرة أن هذا التصور يدخل في باب «قول حق يُراد به باطل».
ثمَّ تقدم نظرة تحليلية في فكر الإسلاميين لما قرأته من جدل جرى بينهم على صفحات مجلة «المنار الجديد» التي صدرت في شتاء 1998-، متلمسة مقومات الخيال السياسي في خطابهم ومفاهيمهم. وهي مجلة اقتبست اسمها من اسم مجلة «المنار» التي أسَّسها الشيخ رشيد رضا الذي كان من أئمة الإصلاح، وكان كتَّابها حركيون من الإخوان والسلف والوسط والمستقلين الذين انشقوا من تيارات سياسية..
وأكاديميون وباحثون، وأصوات من الناصريين والأقباط، ومنهم: محمد عمارة، جمال سلطان، كمال السعيد، طارق البشري، أبوالعلا ماضي الذي يؤكد أهمية حسم الجماعات الإسلامية خيار نبذ العنف بقوة.
وتتحدث عن توفيق الشاوي الذي يناقش أهمية تقديم موسوعة عصرية للفقه الجنائي الإسلامي تؤمِّن حرمة المواطن بغض النظر عن دينه وخصوصية حياته الخاصة. وفي بحثها عن – ما وراء الخطاب خريطة النسق وفضاء المرجعيات وحدود الخيال- وهي لا تزال تناقش وتحلِّل خطاب «المنار الجديد»، ترى المؤلفة أنَّه من الطرافة أن نجد ملامح علمنة أوروبية متسربة إلى ثنايا الخيال الإسلامي، تحكمها وطأة هيمنة النموذج الغربي الحديث على الواقع.
فلا يكون الاشتباك إلا دفاعياً يسعى فيه الخطاب إلى إسبال الكساء الإسلامي على مقومات تلك النهضة الماثلة في الواقع، فيدفع بمقولات تراثية عن درء تعارض العقل والنقل لبيان عقلانية الإسلام. وتأخذ الباحثة على الخطاب الإسلامي أنَّه قَبِلَ بغير وعي- واستبطن، تصورات تُهيمن عليها سلطة الليبرالية ومرجعيتها، فصاغ رؤيته بتبني تصنيفاتها وأسلمة أبنيتها.
وتبين المؤلفة أنه غاب الخيال الاجتماعي والسياسي الفلسفي - النظري من تصورات «السياسة» لدى الاسلاميين، وهيمن الفقه الشرعي التاريخي والقانون وتداخلا، وتكرَّست مفاهيم غريبة عن الدولة، وتشكَّل حول ذلك خطاب شرعي وفكري يدعم هذا التصور. ونجد أنه لا يختلف محمد عمارة في نقده كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق كثيراً عن عبد القادر عودة..
ولا يوجد عالم اجتماع أو عالم سياسة متخصص في الساحة الحركية يُعيد التفكير ويحدِّد الرؤية، بل تأتي أبرز الأصوات التي تتحدَّث في التجديد من خلفيات العلوم الطبيعية أو الفقه الشرعي أو القانون. وهي مفارقة تجعلنا دائماً في مرحلة «المقدمات»، نقرأ الهوامش لكن المتنَ المُنتظر غائب. وهنا تعود المؤلِّفة لتطرح سؤالاً مركزياً: ما الإسلامي في التنظيمات الإسلامية؟ وما الذي تلبس به من حداثة؟
هل هو المشروع الفكري الذي يحلم باستعادة خلافة على صورة إمبراطورية أدى ضعفها إلى هزيمتها؟ أم المشروع الذي يختزل الشريعة في القانون لتناسب حجم ومنطق الدولة القومية التي ترى القانون وحده فرس الرهان لأنها تحتكر صنعه وتفسيره وتطبيقه؟
أرسل تعليقك