دبي ـ جمال أبو سمرا
اعتمد المسرح منذ نشأته الأولى في بلاد اليونان على الحكاية المستوحاة من الأسطورة، وتداخلت أنواع أدبية وفنية في صياغة النص المسرحي مثل الشعر والقصة والرواية والحكاية الشعبية، فعلى سبيل المثال نجد شكسبير يستوحي نصوصه من الأسطورة والحكاية التاريخية، ما يعني أن الكتابة المسرحية عرفت الاقتباس والترجمة والإعداد وإعادة إنتاج النصوص، وفي مسرحنا العربي كانت البداية بالنصوص المترجمة، ثم تم الانتقال إلى إعادة إنتاج نصوص مسرحية مستوحاة من نصوص كلاسيكية عربية خالدة .
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: هل هناك ضرورة لإعادة إنتاج أو كتابة نص مسرحي من رحم نص مسرحي كلاسيكي خالد .
هناك محفزات عدة تغري بتلك الإعادة، هي: أن النص المسرحي الخالد بجودته ومعياريته أصبح نموذجاً يحتذى للكتابة، وأن الشخصيات المسرحية في النصوص المسرحية الكلاسيكية تشكل إغراء لكتاب المسرح لمحاورتها وتأويلها، وأن ندرة النصوص المسرحية العربية تقود الكاتب لإعادة إنتاج نصوص مسرحية عالمية، وأن الكاتب المسرحي العربي يجد في النصوص المسرحية الخالدة قاسماً مشتركاً من الهم الإنساني .
عرف المسرح العربي إعادة إنتاج نصوص عالمية منذ عودة مارون النقاش من أوروبا وكتابته مسرحية "البخيل" متأثراً ببخيل موليير، وفي ذلك يقدم النقاش رؤيته للمسرح بقوله: "ها أنذا متقدم دونكم إلى الأمام محتملاً فداء عنكم إمكان الملام، مقدماً لهولاء الأسياد المعتبرين، أصحاب الإدراك الموقرين، ذوي المعرفة الفائقة، والأذهان الفريدة الراقية، الذين هم عين المتميزن بهذا العصر، وتاج الادباء النجباء بهذا القطر، ومبرزاً مرسحاً (مسرحاً) غربياً وذهباً إفرنجياً مسبوكاً عربياً)، وقد ظلت تلك الاستعادة والاستفادة من نصوص خالدة علامة بارزة في مسيرة الكتابة المسرحية العربية، ومنذ فترة ازدهارها في الستينات وحتى وقتنا الراهن نجد العديد من النصوص المسرحية العربية المعاد إنتاجها من نص مسرحي خالد وسوف نتناول هنا أربعة نماذج وهى: "أوديب"، "هاملت"، "ريتشارد الثالث"، و"بيجالميون" .
مسرحية "أوديب" للمسرحي اليوناني سوفكليس التي استمدها من أسطورة أوديب تم تناولها في المسرح العربي عند كل من أحمد باكثير وتوفيق الحكيم وعلي سالم ووليد إخلاصي، فعند باكثير جاءت بعنوان "مأساة أوديب" وصور فيها الكاتب صراعاً بشرياً بين قوى الشر متمثلة في الكاهن الأكبر المخادع وقوى الخير متمثلة فى أوديب والكاهن الصالح، واستبدل باكثير الصراع بين البشر والآلهة في نص سوفكليس إلى صراع أرضي بين البشر .
جاء نص توفيق الحكيم جاء بعنوان "أوديب ملكاً" وجسد فيه صراعاً بين البشر والآلهة منحازاً لفكرة استحالة تحدي الإنسان لإرادة الإله، أما وليد إخلاصي فعنون نصه ب "أوديب"، أما على سالم فقدم نصه بعنوان "أنت اللي قتلت الوحش" وهو بالعامية المصرية وفي إطار كوميدي .
ونالت مسرحيات الكاتب الإنجليزي الأشهر وليم شكسبير العابرة لحدود الزمان والمكان نصيب الأسد في إعادة الإنتاج من طرف كتّاب المسرح العربي، فمسرحية "هاملت" التي تنفتح على تأويلات سياسية ونفسية واجتماعية وفلسفية عميقة تناولها الكاتب المسرحي السوري ممدوح عدوان في مسرحية بعنوان "هاملت يستيقظ متاخراً"، والكاتب العراقي جواد الأسدي في مسرحية بعنوان "انسوْا هاملت"، والكاتب العراقي صلاح القصب والكاتب المصري محمد أبو دومة والكاتب الأردني نادر عمران والكاتب الكويتي سليمان البسام .
تصور سليمان البسام في نصه عن "هاملت" اجتماع قمة يتوافد إليه الحكام والزعماء بعد حالة حرب ومحاولة كل طرف الحفاظ على حظوظه في السلطة والحكم، وهنا يقدم وجهه نظر سياسية في الوضع السياسي العربي الراهن بكل تعقيداته ومؤامراته، المخرج العراقي صلاح القصب قدم افتراضاً مغايراً في نصه فليس هناك جريمة قتل كتلك التي حدثت في هاملت شكسبير، وإنما هي هلاوس "هاملت" بشخصيته المصابة بالشيزوفرينيا والمنشطرة بين ذات الواقع وذات الخيال، وقد أخرج نصه ذلك في عرض برؤية بصرية محتشدة بالطقوس الوحشية البدائية ومعادلة بالصورة بين البياض والسواد لكل جانب من جوانب شخصية "هاملت"، أما ممدوح عدوان في "هاملت يسيقظ متاخراً" فيتناول خيانات الأنظمة السياسية العربية ويعرّي تخاذلها في مواجهة الأعداء وشراستها في السياسة الداخلية .
تدور مسرحية "ريتشارد الثالث" في دهاليز السلطة وما تحفل به من صراعات دموية، وقد تناول هذا النص الكاتب التونسي محفوظ غزال والكاتب الكويتي سليمان البسام .
كتب غزال كتب مزاوجاً بين العربية الفصحى والعامية التونسية، وجسد صراعاً بين مستويين الأول صراع السلطة كما في النص الشكسبيرى، والثاني صراع اجتماعي يومي في الواقع التونسي لرجل وزوجته وأمه، وحاول محفوظ إسقاط الواقع السياسي العربي من خلال أحاديث وقصص من الحياة الاجتماعية لاسرة معاصرة من الطبقة الوسطى في تونس، أما سليمان البسام فقدم شخصية الديكتاتور المتسلط صاحب السلطة المطلقة كنموذج لحاكم عربي متجبر .
استمد الكاتب الإيرلندي برنارد شو مسرحية "بيجماليون"، وهي مستمدة من أسطورة "بيجماليون" اليونانية عن من صنع المثال ثم التعبد به، وقد كتب توفيق الحكيم مسرحية "بيجماليون" متاثراً بنص دشو، وفي عمل شو نجد عصرنة للحكاية وخروجها من روح الأسطورة إلى روح الحياة الواقعية الاجتماعية، عالم صوتيات يلتقط امرأة من عامة الشعب ويعيد صياغتها كامرأة أرستقراطية لكنها تنتهي إلى رفض "شخصية الارستقراطية"، وتتمرد على العالم الذي حولها إلى تلك الشخصية، وفي نص توفيق الحكيم نجده مخلصاً لروح الأسطورة، لكن في إطار حديث، فيصور رجلاً يتزوج ملهمته ليبدأ الصراع بين الواقع والمثال في إطار فكري فلسفي عميق .
ينبغي أن نلاحظ أن إعادة كتابة النصوص المسرحية الخالدة تستدعي الإلمام بلغة الكتابة الاصلية ومعرفة الثقافة والمجتمع الذي إنتاج النص، وأن عدداً كبيراً من النصوص المعاد إنتاجها عربياً تتناول قضايا سياسية، وأن التراجع الراهن في الكتابة المسرحية العربية يحتم الاستعانة بالنصوص العالمية .
إن ندرة النصوص المسرحية جيدة المستوى أصبح ظاهرة تستحق البحث والدراسة، فمعظم النصوص المسرحية العربية الكبيرة التي نالت الشهرة والصيت أنتجدت خلال حقبة الستينات والسبيعينات من القرن الماضي وبأسماء لمسرحيين رحلوا أمثال سعد الله ونوس ومحمود دياب ونجيب سرور وتوفيق الحكيم وميخائيل رومان، وتميز هولاء الكتاب بالثقافة الموسوعية والوعي السياسي والتأهيل الأكاديمى، والسبيل إلى إعادة أمجاد النص المسرحي العربي يستلزم بالضرورة الاهتمام بالدراسات الأكاديمية المتخصصة في علوم وفن المسرح في الجامعات والمعاهد العليا وتنمية الزاد الثقافي للمسرحي بالتعرف على النصوص المسرحية العالمية ومحاورتها ودراستها من مختلف جوانبها الاجتماعية والاقتصادية ومرجعياتها الفكرية والفلسفية .
أرسل تعليقك