غوتنبرغ. ماذا يمكن أن تخبّئ لي هذه المدينة السويدية وثاني مدينة بعد العاصمة ستوكهولم! السفر إلى غوتنبرغ كان بدعوة من شركة فولفو التي لم يخطر في بالي يومًا أنها صناعة سويدية رغم شغفي بالسيارات ورغم أن والدي كان لديه واحدة منها.
وفي كل الأحوال عنوان الرحلة مغرٍ... تجربة رفاهية قيادة سيارة فولفو XC9 الرباعية الدفع في شوارع غوتنبرغ لا يمكن أحدًا أن يتردّد في خوض هذه المغامرة. فالمدينة والسيارة وقعهما جميل.
اليوم الأول ولقاء جمال غوتنبرغ الخريفي
حزمت حقيبتي بعدما حشوتها بالملابس الشتوية، فخريف غوتنبرغ ليس كخريف بيروت، والحرارة فيها، في تشرين الأول/ أوكتوبر تصل إلى درجة مئوية واحدة. في مطار بيروت الدولي تعرفت إلى زميلتي في الرحلة، ليال ونسرين، وحلّقنا إلى اسطنبول ومن ثم إلى غوتنبرغ حيث استغرق التحليق ثلاث ساعات ونصف ساعة.
حطت الطائرة في مطار غوتنبرغ لاندفتير Landvetter، وأسرعت خطاي نحو البوّابة الفاصلة بيني وبين المدينة. كان في انتظارنا سائقو سيارات فولفو XC9 الرباعية الدفع.
راحت السيارة تدور بي، وتكشفت لي غوتنبرغ حسناء سويدية تزينت بألوان الخريف وتعطرّت بنسائمه الباردة.
عند مرفأ العبّارات توقفت السيارة مدة ربع ساعة منتظرة العبّارة التي تقلنا والسيارة على متنها نحو شبه جزيرة هونو Hono. سيارة وعبّارة وبحر يتلاعب بنا، وسحب يترقب البر أمطارها... هكذا بدأت المغامرة السويدية.
رست العبّارة وعادت السيارات تدور بين شوارع شبه فارغة إلى أن وصلنا إلى بلدة صغيرة تستريح على البحر، بيوت معتمرة القرميد تشعر بدفئها رغم البرد القارس ونسائمه التي تهب من بحر الشمال.
عند مدخل فندق تروبادورون Trubaderun استقبلنا «بوس هاندل» المدير التنفيذي والعلاقات العامة في شركة فولفو، رحّب بنا ومالكة الفندق، التي أكدت لنا أن بلدتها تتحوّل إلى ريفييرا فرنسية أو سان تروبيز خلال الصيف. فحشود المصطافين تتوافد من كل أنحاء السويد والبلاد الاسكندينافية المجاورة، إلى درجة يصعب معها إيجاد غرفة فندقية للمبيت.
تردّدت في خوض مغامرة الرحلة البحرية، لكن زميلتي دلال، قالت لي «لمَ تفوّتين هذه المغامرة... هل أنت متأكدة من أنك ستعودين إلى هذه البلدة في الصيف!» بالفعل حمستني، وكان البرد قارسًا يحاصرنا وموج البحر من كل الجهات، ولكننا جميعًا كنا متسلحين بمعاطف واقية للماء والبرد.
دامت الرحلة حوالى الساعة، ثم عدنا إلى البر قاصدين أحد المقاهي لتناول الغداء. عند مدخل بوتيك يعرض التحف والتذكارات، وقفنا مستغربين حين دعانا بوس للدخول، ولكن عندما ولجنا في رواق البوتيك، اكتشفنا أنه مطعم أيضًا، استقبلتنا صاحبته بابتسامة عريضة دافئة. وبما أن العشاء كان عند السابعة، فقد قررنا تناول طبق السلطة الشهي.
السمك والثمار البحرية هي المكوّن الأساس في الأطباق السويدية أقله في غوتنبرغ. على مائدة العشاء في مطعم تولهوست Tullhuset اجتمعنا لتنهال علينا الأطباق اللذيذة، التي لا يمكن أن تقولي لها «لا».
وخلال العشاء حدّثنا الدكتور بجورن أوهلسون، اختصاصي في علم الإثنيات، الذي استهل حديثه بأن السويديين ليس لديهم فلكلور أو تراث شعبي يتباهون به، ولكنهم يفتخرون بأبنائهم المخترعين، الذين غيّروا وجه التاريخ وأحداثه وساهموا في تطور البشرية.
وإذا كان ألفرد نوبل أشهرهم (1833- 1896)، فإن أندرس سيلسيوس (1701- 1744) هو مخترع ميزان الحرارة، فيما حزام أمان السيارة الثلاثي النقاط اخترعه السويدي ومهندس السلامة نيلس بوهلين الذي قام بتطويره عام 1959 لسيارات فولفو. وبالطبع فإن أحدث الاختراعات الثورية في عالم الاتصالات هو تطبيق «السكايب» الذي جعل العالم قرية صغيرة بالفعل والافتراض، وأحد المستثمرين فيه السويدي نيكلاس زينشتروم.
من وداع هونو إلى تفاصيل عالم فولفو
انتهى عشاؤنا الأول بغذاءي المعدة والفكر. ليبدأ صباحنا الأول من هونو على وقع البرد الذي يزنّرها، والذي ودّعنا بدفء ركوب سيارة فولفو- ليموزين متوجهين إلى مركز تجارب فولفو حيث أمضينا يومًا كاملاً تعرفنا خلاله إلى أدق تفاصيل هذه السيارة الرائدة. وأهم تفصيلين أعجباني كثيرًا، الأول كراسيها التي تتضمن اختيار التدليك أثناء القيادة وزحمة السير.
تخيّلي نفسك بعد يوم عمل طويل وأنت عالقة في زحمة السير، تضغطين على زر التدليك فتنسين الزحمة وخنقتها. أما التفصيل الثاني فهو الـ Self-Driving أو القيادة الذاتية، أظن أن معظم النساء العاملات يرغبن في ذلك، خصوصًا عند الصباح، فغالبًا ما ألتقي في زحمة السير شابات يضعن ماكياجهن في السيارة منتهزات التوقف القسري، ويتحوّل المشهد كوميديًا عندما يباغت أحدهم السيدة بإطلاق بوقه متذمرًا لأنها مشغولة بماكياجها فيما الإشارة خضراء. مع ميزة القيادة الذاتية لن يجرؤ أحد على فعل ذلك بك إذا كنت ممن يصححن ماكياجهن في السيارة.
وسط غوتنبرغ حيث الحركة لا تنتهي
بعد نهار طويل أمضيناه في التعرّف إلى فولفو، توجهنا إلى فندق Gothia Upper House Hotel، وفي الطريق وعلى عكس هونو، كشفت غوتنبرغ وجهها الحقيقي المفعم بالحياة والتاريخ المتجسد في أبنية تاريخية تماهت في جمال هندستها مع الطبيعة التي ترتدي ثوب الخريف الذهبي المستريح على أشجار متنزهاتها المتأملة في نهر غوتا الذي تمتد عند مخرجه المدينة.
تأسست غوتنبرغ عام 1621 على يد الملك غوستاف الثاني أدولف، في أوج الإمبراطورية السويدية. كانت المدينة مركزًا لصناعة السفن السويدية، ولكن مع تزايد المنافسة من أحواض السفن الأجنبية، أغلق العديد من الأحواض الجافة في أواخر القرن الـ20.
لقد تغيرت معالم المدينة إلى الأجمل، فمن مدينة لصناعة السفن، إلى مدينة التكنولوجيا المتطوّرة، والتعليم، وجامعة غوتنبرغ هي الأكبر في البلاد الاسكندينافية، يرتادها أكثر من 60 ألف طالب. فلا عجب في أن تكون اليوم غوتنبرغ المدينة الأكثر صخبًا وحيوية في السويد.
وصلنا إلى برج «غوثيا تاور» الذي يضم الكثير من المطاعم والأبنية وكذلك الفندق الذي نبيت فيه Gothia Upper House Hotel. غرفتي في الطبقة الثانية والعشرين، عندما فتحت بابها فاجأتني النافذة العملاقة المشرفة على غوتنبرغ وكأنها تدعوني إلى تأمل جمال المدينة من العلى، لحظة كانت الشمس الأرجوانية تودّع السحب الرمادية لاستقبال الليل.
عند السابعة توجهنا إلى مطعم «سجوماغاسينت» لتناول العشاء، كانت المسافة بين المطعم والسيارة قصيرة جدًا، ولكن لسعات البرد كانت قاسية، كسرها دفء مدفأة المطعم.
استقبلنا أولف واغنر مالك المطعم ومديره وراح يحدثنا عن الأطباق الذي أعدّها لنا والتي كانت مكوّناتها من السمك والفطر، مما أثار شهيتنا «فالأذن تعشق قبل العين أحيانًا». بدأت الأطباق تنهال علينا، ولم يكن أحدنا يستطيع مقاومة شكلها في البداية ثم طعمها، انتهى العشاء وعدنا إلى الفندق وكانت غوتنبرغ لا تزال مستيقظة بكل تفاصيلها.
أرسل تعليقك