وعي "طباقي" يمنح صوتًا للصامتين والمقموعين

في كل ما تقرأ من أخبار وتعليقات تتذكر الروائية الجزائرية الراحلة آسيا جبار 1936-2015 لم أصادف مقالة أو خبراً يشير ولو بلمحة إلى أكثر جوانب أدبها لفتاً للنظر، أعني، أولا تغطيتها لمساحة مهملة من مساحات الوطن العربي التي تعرضت لغزو "المستشرقين"، مساحة المغرب العربي، وبخاصة الجزائر، بحيث نظرت إليها "ملدرد مورتايمر"، من جامعة كولورادو كباحثة ومؤرخة جاء عملها استكمالا لنقد الاستشراق الذي أطلقه "إدوارد سعيد" 1935-،2003 وثانياً، أنها تضع في الواجهة أيضاً كتابات وأعمال النساء في مقاومة الثقافة الاستعمارية .
أحد المفاهيم الأساسية التي اعتمدتها هذه الكاتبة هو مفهوم القراءة الطباقية، وتعني القراءة المتزامنة لموضوع واحد مأخوذ من أكثر من وجهتي نظر، الأمر الذي لايتوفر لمعظم الناس الذين يعون من ناحية المبدأ ثقافة واحدة، ووطن واحد، ومكان واحد، بينما يمكن أن يتوفر هذا للمغتربين والمنفيين الذين ينفتح وعيهم على أكثر من ثقافة وأكثر من وطن وأكثر من مكان، على اثنين من هذا الجانب أو ذاك على الأقل، وعلى رؤى متعددة، ما يدفع إلى ظهور وعي بالأبعاد المتزامنة، أو وعي "طباقي"، وهذا مصطلح استمده النقد من عالم الموسيقى، فهذا العالم يتوفر على عزف لأكثر من آلة سوية فتتواقت أكثر من نغمة . أما في عالم التحليل والكشف عن المكبوت والمقموع في التاريخ، فتنحو القراءة الطباقية منحى قراءة متزامنة لروايتين على الأقل، رواية الشعوب التي قمعتها الثقافة الاستعمارية ومنعتها من التعبير عن نفسها، وقامت "بتمثيلها" على هواها وهوى مصالح سيطرتها، ورواية المستعمر ذاته التي عمادها، كما أظهر إدوارد سعيد بمهارة، علاقة قائمة على التسلط والهيمنة .
في هذه القراءة التي مارستها آسيا جبار في رواياتها كما في مقالاتها، وخاصة في مقالتها "نظرة محرمة، صوت مقطوع"، تقرأ الأحداث التاريخية بأسلوب روائي محير . مثلا في روايتها "فانتازيا وحب" المترجمة إلى الانجليزية تحت عنوان " فانتازيا: موكب جزائري"، أسلوب لاهو أسلوب رواية ولا أسلوب المذكرات الشخصية ولا أسلوب التاريخ الشفهي، بل هو كل هذه الأساليب مجتمعة، مما دفع أحد القراء إلى القول أن روايتها هذه تتحدى التصنيف السهل، وأفضل وصف لها هو أنها تأمل في التاريخ .