حكايات تجار البحر

سيرة الراوية خليفة بن حمد الفقاعي منسوجة من موج البحر وخشب السفن، لم يقاوم على طول سنواته العملية عشقه لذلك العالم الممتع الصعب الرهيب، حتى حين اطمأنت حياته، وحصّل مالاً واشترى أرضاً وأقام عليها زراعة، وظن أنه اطمأن إلى ذلك العالم الهادئ البعيد عن اضطراب موج البحر ومغامرات السفن، تاقت نفسه من جديد إلى البحر، فترك الزراعة بعد ثلاث سنوات وارتمى في أحضان عالمه الأثير .
ولد النوخذة البارع خليفة الفقاعي في دبي ،1921 وترعرع في رأس الخيمة، وفي حكاياته عن حياة الناس في تلك الفترة، يروي أن الأسر في رأس الخيمة كانت تنتقل في فصل الصيف إلى "المقيظ" (واحة النخل) حيث الظل والماء البارد والتمر، وفي فصل الشتاء تعود إلى منطقة المعيريض حيث المساكن الدافئة، وقد كان لأهله مزرعة نخيل يصطافون فيها ويأوون إليها من حر الصيف اشتروها عندما تحولوا من دبي إلى رأس الخيمة، وكانت الرحلة بين المنطقتين تدوم أياماً، خاصة في المواسم التي لا يذهب فيها أهل السفن من دبي إلى رأس الخيمة، فلم تكن السيارات متوافرة، ولم تكن من وسيلة سوى السفر براً والمشي على الأقدام، لفترات طويلة .
لم يكد الفقاعي يصل سن المراهقة حتى اقتلعته هموم الحياة من جلسة الصبي الوادعة أمام المطوعة ليكرر دروس القرآن إلى عالم آخر رهيب وكبير، ووجد نفسه تتقاذفه سفينة في عرض البحر بين مجموعة من الرجال تلفحهم الشمس ويتموج بهم الماء، وهم يعضون على أضراسهم متشبثين بعزيمة الصبر وأمل الرزق الوفير، وبين الحين والآخر يطردون التعب والخوف والإحباط بمواويل (النهام) الجميلة، كان الصبي ذكياً متقد الفكر يسجل كل شيء في عقله الباطن ويختزنه لأيامه المقبلة، حتى إذا ما جاء دوره كبحار استل تلك الخبرة من ذاكرته وبدأ العمل بسهولة ويسر . مر على كل مراحل عمل البحار حتى صار نوخذة يشار له بالبنان، ونجح في عمله الذي أحبه وأخلص له .
أورثه انخراطه المبكر في المهنة حب الأسفار، فكان يسافر في الرحلات التجارية الطويلة إلى الهند وإيران وغيرهما من المناطق التي كان يتزود منها التجار بالبضاعة ويحملونها إلى المدن الساحلية في الإمارات لبيعها، وقد شهد أوج ازدهار حركة السفن والتبادل التجاري عبر البحار في تلك الفترة .
يذكر كتاب (يوم الراوي) الصادر عن إدارة التراث في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة نقلاً عن خليفة الفقاعي أن موانئ الإمارات كانت تعمل فيها في تلك الفترة ما بين 250 على 300 سفينة شحن كبيرة، وكلها للأسفار البعيدة، أما السفن الصغيرة التي تجوب موانئ الخليج فلا حصر لها، ويروي الفقاعي أن السفن الكبيرة كانت تجلب البضاعة من الهند وإيران وباكستان وشرق إفريقيا، وكانت هذه البضائع تشمل الملابس والبهارات والعطور والأدوات والأواني المنزلية وغيرها من مستلزمات الحياة، بينما كانت السواحل الإماراتية تصدر اللؤلؤ والتمر والصناعات الجلدية وبعض المصوغات والصناعات اليدوية المحلية، وقد عمل في بدايته مع مجموعة من البحارة الإماراتيين الذين كانوا يمارسون التجارة على ظهر السفن منهم سالم بن محمد الذي عمل معه اثني عشر عاماً كان يسافر فيها بين الهند وإيران وغيرهما، ويجلبون البضائع ويبيعونها، وكان سالم هذا رجلاً فاضلاً ذا خلق لا يحب الغش ولا الخداع، وقد تعلم منه الفقاعي تلك الأخلاق، حتى أصبحت أساساً لتعامله مع الناس، وأصبح يحث عليها أبناءه وكل من يعمل لديه .
عبر عمله الدؤوب وصبره وذكائه اكتسب الفقاعي خبرة بالسفن والتجارة، وأصبح يدخر قسطاً من دخله حتى حصّل ثمن سفينة صغيرة فاشتراها، وبدأ يعمل عليها مستقلا عن التجار والنواخذة، وظل في كل مرة يشتري سفينة جديدة حتى أصبح له أسطول من السفن التي تحمل البضائع إلى الموانئ المجاورة، وأصبح أحد رجالات البحر الناجحين، وفي جعبته من حكاياته وسيرة أهل الإمارات مع البحر ما لا ينتهي، وقد أفادت رواياته الكثير من أخبار رجال البحر وأحداثه في تلك الفترة المهمة من تاريخ المجتمع الإماراتي، وقد كرمته إدارة التراث في دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة في يوم الراوي في عام 2005 .