القاهرة ـ وكالات
شكلت وحدانية خيار التطور أمام البشرية، بعد انهيار تجربة بناء الاشتراكية، في بداية تسعينات القرن الماضي، معضلة فكرية للباحثين والمفكرين المهتمين بدراسة تطور العلاقات الدولية، نتجت عنها كثرة من الإشكالات.. منها: هل وحدانية خيار التطور الاجتماعي على الصعيد العالمي المتمثل في طريق التطور الرأسمالي ينتج عنها ضرورة أخذ النموذج الأميركي للديمقراطية مثالا وحيدا للتطبيق في الدول غير المتطورة (المعروفة في الفكر السياسي سابقا بالدول النامية) التي كانت تعيش على هامش خياري التطور الاشتراكي والرأسمالي؟.. ومنها: ما هو تأثير الانتقال لوحدانية خيار التطور الاجتماعي على الصعيد العالمي على بناء الدولة الوطنية في المجتمعات التي تتخلص من الاستبداد؟.. ومنها: ما هي العلاقة بين العاملين الدولي/ الخارجي والوطني/ الداخلي في حسم الصراعات الاجتماعية على الصعيد الوطني، وما هو الحاسم فيهما؟.. وأخيرا من يعطي الشرعية للسلطات الحاكمة في الدول الوطنية، هل الشرعية الانتخابية، أم الشرعية الديمقراطية وما هو الفرق بين الشرعيتين؟ هذه الموضوعات وغيرها يتناولها الباحث الدكتور لطفي حاتم في كتابه الذي صدر مؤخرا، بعنوان «التشكيلة الرأسمالية العالمية والشرعية السياسية للدولة الوطنية»، مواصلا أبحاثه حول تطور العلاقات الدولية في ظل نظام القطبية الواحدة وتأثيراتها على بلدان الشرق الأوسط، والتي نشرها في كتابيه «آراء وأفكار حول التطور الرأسمالي» الذي صدر عام 2008، و«موضوعات في الفكر السياسي الجديد» الصادر عام 2010. يناقش الباحث أفكاره في فصلين، ففي الفصل الأول «الدول ومصادر شرعيتها» تناول الشرعية السياسية للدولة عبر تطورها التاريخي وصولا إلى تشكل نموذجين للدول في العصر الحديث، الدولة الرأسمالية والدولة الاشتراكية، وهو الأمر الذي ارتبط بظهور خياري التطور الاجتماعي، بعد الحرب العالمية الثانية. وبخصوص أسباب انهيار نموذج الدولة الاشتراكي في الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية، في بداية تسعينات القرن الماضي، يرى الباحث أنها تعود، بشكل أساسي، إلى ضعف الديمقراطية السياسية وانتشار البيروقراطية في مؤسسات الدولة. في هذا الفصل يرصد الباحث الإشكاليات الفكرية - السياسية التي نتجت عن انهيار تجربة بناء الاشتراكية وتأثير ذلك على البنية الاجتماعية للدولة الرأسمالية المعاصرة، مشيرا إلى أن «الطبقة الرأسمالية أصبحت ذات سمات كوزموبوليتية بفعل ترابطاتها الاقتصادية - المالية، المالية الإنتاجية، الخدمية والإعلامية، خلافا لسمات الطبقة العاملة التي انكفأت إلى مواقع وطنية بعد سيادة الليبرالية الجديدة، بهدف الدفاع عن مكتسباتها الاقتصادية» (صـ8). وفي ما يخص تأثير التطور السابق على الدولة الوطنية، يتوصل الباحث إلى أن «القوانين الجديدة للرأسمالية المعولمة تحد من فعالية التناقضات الوطنية بسبب وحدة وتشابك المصالح الاقتصادية: الوطنية والدولية» (صـ8). وفي الفصل الثاني، يتابع الباحث تحليل التطورات الفكرية - السياسية المتعلقة بالدولة الوطنية، مركزا بشكل خاص على طبيعة الدولة الوطنية في المنطقة العربية، بالارتباط مع تأثير قانون الاستقطاب الناظم لتطور التشكيلة الرأسمالية المعولمة، مشيرا إلى أن تفاعل هذا القانون في العلاقات الدولية أدى إلى بلورة أشكال جديدة لتعامل الدول الرأسمالية المتطورة مع البلدان العربية وفق قانون يطلق عليه الباحث «قانون التهميش والإقصاء» ووفق هذا القانون يجري «تكييف الدول الوطنية عبر ضغوط اقتصادية وسياسية واجتماعية تؤدي لنقل تلك العلاقة من التبعية التي ميزت اقتصادها الوطني في مرحلة الاستقلال والتحرر الوطني إلى مرحلة الإلحاق» (صـ116). وبناء على هذا القانون تصبح سمة عدم التكافؤ هي التي تتحكم في العلاقة بين الدول الرأسمالية والدول العربية، وأهم نتيجة لهذه العلاقة هي عدم مراعاة المصالح الوطنية، الاقتصادية والسياسية، للدول العربية. وفي ما يخص تاريخ تطور الدولة الوطنية في البلدان العربية، قام الباحث بتحليل مسارات تطور الفكر القومي وتأثيراته على بناء الدولة، باعتباره الفكر السائد خلال مرحلة تكون الدول الوطنية بعد إنهاء السيطرة الاستعمارية المباشرة في أغلب الدول العربية في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، متوصلا إلى أن الإشكالية الرئيسية للفكر القومي تكمن في غياب الديمقراطية في بنيته الفكرية، الأمر الذي أدى إلى إعاقة بناء دولة حديثة، قادرة على مواجهة مشاريع الهيمنة الغربية، وفي الوقت نفسه تلبية الحقوق السياسية والاجتماعية للمواطنين، مما أدى إلى فقدان السلطات الحاكمة والدولة معا، الشرعية الوطنية. ومن أجل إعطاء أبحاثه واقعية، انتقل الباحث من المجرد إلى الملموس، من خلال متابعة مسار تطور الدولة العراقية الحديثة التي تشكلت في عام 1921، مستعرضا سماتها التاريخية المتمثلة، حسب رأي الباحث، بأربع سمات، الأولى احتكار السلطة من قبل نخبة قليلة، والثانية اللجوء للعنف السياسي ضد المجتمع، والثالثة البناء الطائفي، والرابعة المركزية الشديدة التي أعاقت حصول المكونات القومية للشعب العراقي على حقوقها المشروعة. إن تلك السمات هيأت الظروف المناسبة لقوى الاحتلال الأميركي بعد عام 2003 لصياغة رسمية لإعادة بناء الدولة في العراق على أساس تقاسم طائفي - قومي للسلطات الثلاث، الرئاسة والحكومة والبرلمان، وأصبح هذا التقسيم لاحقا حقوقا مكتسبة، باعتباره يمثل التنوع الطائفي القومي للتشكيلة الاجتماعية للدولة العراقية. في القسم الأخير من الفصل الثاني، تطرق الباحث إلى أسباب خفوت دور أحزاب اليسار الاشتراكي في البلدان العربية، معزيا ذلك إلى تخلف بنيتها الفكرية والتنظيمية وبالتالي عدم قدرتها على مواكبة الأحداث، بعد انهيار تجربة بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية. ويرى الباحث أن «تغييرات السياسة الدولية التي أنتجها الطور المعولم من التوسع الرأسمالي تعمل باتجاه تحول روابط تبعية الدول الوطنية التي ميزت حقبة المعسكرين إلى ركائز لاندماجها بصيغة الإلحاق». وبناء على ذلك يقترح الباحث أن تتحول أحزاب اليسار الاشتراكي إلى أحزاب يسارية ديمقراطية لـ«تشكل وريثا تاريخيا لكل ما أخزنته التجربة الكفاحية للحركة الوطنية الديمقراطية العربية وفاعلا نشطا في صيانة الدولة الوطنية من الإلحاق والتهميش» (صـ210). وفي ختام الكتاب، يقدم الباحث مجموعة من الاستنتاجات منها: 1) إن الاستناد إلى الشرعية الانتخابية للسلطات التي تقوم على آليات الديمقراطية، الانتخابات فقط، يضعف الشرعية الوطنية للدولة، لأن بناء الدولة الديمقراطية يشترط توفير الضمانات الاجتماعية، التي تقوم على قاعدة التوازنات الطبقية للتشكيلة الاجتماعية الوطنية. 2) إن حل مشكلة الدول متعددة القوميات يتطلب بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، على أساس فيدرالي لضمان حقوق كل القوميات، بهدف تعزيز وحدتها الوطنية. 3) تطوير المفهوم الديمقراطي للوحدة القومية على قاعدة التقارب الاقتصادي العربي المتمثل في بناء أسواق عربية مشتركة، تشكل في نهاية المطاف القاعدة السياسية لاتحاد كونفيدرالي عربي واحد. 4) إن مقاومة نهج التهميش والإقصاء الذي تعتمده الدول الرأسمالية، تتطلب البحث عن أشكال جديدة للنضال الوطني، تقوم على إشراك جميع الطبقات والفئات الاجتماعية التي لها مصلحة في الحفاظ على السيادة والاستقلال الوطني، وإقامة دول تحترم حقوق الإنسان، السياسية والاجتماعية. أخيرا، تعتبر الأفكار الواردة في الكتاب، خلاصة لجهد نظري ناقد ومتابعة مباشرة من قبل الباحث، لتطور العلاقات الدولية وتأثيراتها على الدول العربية، خلال العقود الخمسة الأخيرة، مركزا بشكل خاص على نقد أفكار الباحثين في البلدان الغربية الذين يروجون لأفكار الليبرالية الجديدة، باعتبارها الوصفة النموذجية لإعادة بناء الدولة الوطنية في المنطقة العربية خلال حقبة نظام القطبية الواحدة.