للكتاب الذي بين يديّ، حكاية جديرة بإطلاع القراء، لطرافتها وفرادتها، وهي انه صدر باميركا في منتصف السنة الماضية، وقام مؤلفه بإرساله اليّ مع كلمة اهداء بالبريد الجوي في 1 أغسطس/آب الماضي، لكنه وصلني امس، اي ان رحلته الجوية طالت خمسة اشهر ونيف في ظل علاقة عراقية ــ اميركية ممتازة، فكيف الحال لو كان الكتاب مرسلا الى كوبا او روسيا؟ والحالة الثانية، ان مقدمته كتبها د. زكي الجابر قبل وفاته بأشهر معدوات، وحسب معلوماتي المتواضعة، ان د. الجابر ضنين، في كتابة المقدمات، ما اوحى لي، ان الكتاب حالة استثنائية، والاستثناء يوجب الانتباء، والتركيز. وحالة اخرى في الكتاب، توقفت عندها كثيرا، تتعلق بالشاعر حسين مردان، حيث بيّن المؤلف، إنه من قام بطبع اول ديوان لحسين مردان في عام 1949 في بغداد .. إنه كتاب جدير بالقراءة، كتبه الأديب العراقي، المحامي يوسف انطوان الحاصل على الجنسية الاميركية، حاملاً عنوان "صدى الايام" . و"صدى الايام" هو حصيلة ممارسة عملية فتحت الباب للمؤلف، لكي يلج عالم الناس كما هم، يأكلون الطعام ويمشون في الاسواق يحسنون ما استطاعوا الحسنى ويقترفون الذنب إن لم يكن ثمة من اقتراف الذنب، مهرب. وصفحات الكتاب لن تقول معاداً، مكرراً، ولن تقول تأملات وتصورات لا يربطها بالواقع إلا خيط خيال، ومحاور الكتاب الخمسة التي استند اليها وتبنّاها، تبدو علناً في أحايين، كما تظل في أحايين خفية تحتاج الى التأمل والاستبطان، وأول المحاور، يتمثل في الدعوة الى حق الحياة، أول حقوق الانسان وأعظمها واشملها. ولقد قيل بأن اهم ما يميز الامة المتمدنة عن الاخرى المتوحشة، هوذلك الالتزام بحياة الانسان وحمايتها من جنون المخاطرة والاهانة والموت البارد. إن الكتاب في مجمله علامات رفض للظلم، وتمرد على ظلمات السجون تطبق على الضعفاء والمساكين، وثورة على سوط الجلاد يلسع ظهر البريء وحبل المشنقة يلتف على رقبة الحر الأبي، وإنكار لتطويع القانون ليصبح ميزانه مائل لجهة الثراء والنفوذ والسلطان. والمؤلف يوسف انطون، ضاع اسمه في لجة الكتابات العديدة، رغم ان تاريخه الادبي والاعلامي في العراق، كبير، وربما ان هجرته المبكرة الى اميركا، كانت السبب في ذلك، فللرجل كتابات في صحف بغدادية عريقة مثل صوت الاهالي، صوت الاحرار، اليوم، الثورة، الجمهورية، صوت العروبة، اليقظة، العمل. كما كتب في صحف عربية منها الثورة السورية والشباب العربي المصرية، وعمل فترة ليست قليلة بالتعليم قبل ان يتجه الى المحاماة وتأسيس دار للنشر، فكان احد المربين في اعرق الموسسات التعليمية مثل مدرسة القديس يوسف اللاتينية و كلية بغداد. ورافق هجرته الى اميركا في العام 1962 حبه للصحافة والاعلام والادب، فأصدر جريدة اسبوعية، اصبحت اشهر الجرائد العربية في اميركا هي "العالم العربي" واستمرت بالصدور 28 عاما. وكتاب "صدى الايام" هو تجميع لمقالات يوسف انطوان، في مختلف القضايا، كُتبت في اوقات متابينة، وهي لم تُكتب تحت مظلة واحدة من هدف او غاية، ولذلك تعددت الاهداف والغايات والمعالجات، ومع ذلك فهي بتعددها ذات غنى ونفع ومتعة، إنها شاملة لأحوال المجتمع، وهي بأسلوبها الرشيق، وعرضها الشيّق تغري القارئ، ليس بالقراءة، فحسب، بل تدعوه الى التعليق والنقد الواعي والتحليل. والى جانب ذكرياته الاجتماعية والصحفية التي شملت عشرات الاسماء المعروفة كالدكتور علي الوردي، غائب طعمة فرمان، عبدالوهاب البياتي، فإنه خصص موضوعا مثيرا عن الشاعر حسين مردان حمل اسرارا، ظلت بعيدة عن المتابعين للحركة الشعرية في العراق، لاسيما في بدايات موجة الشعر الحديث. فماذا كشف يوسف انطوان في صدى ايامه، من معلومات حصرية بالشاعر حسين مردان؟ في الصفحة 126 قال يوسف انطون "في نهاية الاربعينيات، وعندما كنتُ ادرس في كلية الحقوق بغداد، انشأت دار المشرق للطباعة والنشر وهي على شكل مطبعة ومكتب، املا ان تكون سندا لي في المستقبل لإصدار جريدة يومية والعمل في المحاماة، وكان بين زبائن المطبعة شاعر شاب اسمه صفاء الحيدري شديد الاعتداد بشاعريته، يعتقد ان الدنيا لم تلد ولن تلد رديفاً له، ولاثبات ذلك كان ينتقد بعنف فطاحل الشعراء. ومع انه كان يقلد مدرسة المهجر الشعرية بوجه عام، والشاعر الياس ابو شبكة، فأن جبران خليل جبران، كان ينال نصيبه الاعنف من النقد، حتى ان صفاء كان يصفه بـ "الثرثار" ظناً منه، إنه بذلك يعظّم نفسه، وينتقص من شاعرية وادب جبران العظيم. كان لصفاء شقيق اسمه بلند يزوره في المطبعة احيانا، عمله الوحيد كان نظم الشعر، مولع بارتياد المقهى البرازيلية الراقي، وتدخين السيكار، والظهور بمظهر ارستقراطي، ولعل في جذوره التركية اثر في نفسيته ونفسية صفاء، إذ كان والدهما ضابطا في الجيش التركي، وقد اصبح بلند فيما بعد رائدا من رواد القصيدة الحديثة. ومن مرافقي صفاء الدائميين، شاعر ناشئ قادم من ريف ديالى لا يقل عنه غرورا وعنجهية اسمه حسين مردان. شاب تعلوه علامات البؤس الفقر والتشرد يحمل بيده دفتراً عتيقاً كتب فيه مسودات ديوانه "قصائد عارية" الذي يحلم بطبعه في يوم من الايام. ان حسين مردان، متأثرا بشعراء اوربا الكبار امثال كامو وبودلير وبايرون وغوته ورغم ضجيج صفاء، كان حسين مردان يلح على سماعي بعض قصائده لأظهار شاعريته، والتبجح بالقول انه اشعر الشعراء جميعاً .. ثم يسخر من صفاء الحيدري، وشلته ليقول عنهم وداعتك هذوله كلهم ما يسوون شي.. آني اخليهم كلهم بجيبي ولوتهيأت لي الظروف الملائمة وطبع دواني، فسوف يكون لي دور هايل في الاوساط الثقافية. بدوري اعجبتُ بشعره، ورأيت فيه مواهب واعدة طمرها الفقر، وتنتظر من يخرجها الى النور، فقررت نشر الديوان على نفقتي الخاصة، فأعلمت حسين مردان بذلك فكاد ان يطير فرحا، وراح ينشر الخبر في كل مكان، ولما علم صديقي المحامي عبدالمجيد الونداوي بذلك، وكان سكرتيرا لتحرير جريدة الاهالي اكّبر فيّ روح المبادرة، وقال لحسين مردان ليس من الانصاف ان يتحمل يوسف انطون وحده هذا العبء، وانه اي الونداوي مستعد للتبرع بالورق اللازم، بيد انني اكدتُ على رغبتي في تحمل االنفقات كلها، بضمنها نفقات الورق المتوفر لدي في مطبعتي، حتى اكون مكتشف هذا الشاعر الموهوب وصانعه.. وهذا ما حصل بالفعل، اذ طبعت الديوان عام 1947 ووضعتُ على الصفحة الاخيرة من الغلاف شعار هو منشورات دار المشرق للطباعة والنشر الذي صممته بنفسي، وظهر في الطبعة الاولى من الديوان الذي احدث احدث فعلا ضجة كبيرة في الاوساط الادبية ــ كما تنبأ حسين مردان ــ ثم حدث ما لم يكن في الحسبان، اذ صادرت السلطات الرسمية الديوان، والقت القبض على الشاعر، واحالته الى حاكم جزاء بغداد الاولى بتهمة قوانين النشر، فحوكم امامه، واستمرت المحاكمة اكثر من شهر، وامر الحاكم بتشكيل لجنة تحكيم ادبية مؤلفة من الشاعر محمد مهدي الجواهري والاديب المحامي احمد حامد الصراف، فقررت اللجنة ان ماجاء في الديوان لا يشكل اي جريمة، وبناء عليه قررت المحكمة الافراج عن الشاعر والديوان. ويبدو ان صفاء الحيدري استغل الحدث، فأخذ يزعم انه من طبع الكتاب على طبعته الخاصة، في حين ان الحيدري في تلك الآونة، لم يكن في وضع مالي يمكنه من طبع الديوان، الى جانب انه لم يكن يعترف بأي شاعر مهما علت منزلته، بل يعتبر نفسه الشاعر المجلّى، فما بالك بإنسان مشرد مغمور اسمه.. حسين مردان. وتكثر حكايات يوسف انطوان في صدى سنينه، وربما في مناسبة اخرى نضع بعضها امام القراء.