الفلسفة والشعر.. لقاء العطاء والاكتشاف

ؤكد كتاب «الفلسفة والشعر» لمؤلفته ماريا ثامبرانو، أننا لا يمكن أن نعثر على الإنسان الكامل في الفلسفة، ولا يمكن أن نعثر عليه في الشعر. في الشعر نعثر مباشرة على الإنسان الملموس والفردي – وفي الفلسفة نجد الإنسان في تاريخه الشمولي.

وكما يعني الشعر في إرادته أن يكون لقاءً وعطاءً واكتشافاً، فالفلسفة بحث على هدى النهج، والوحدة التي بحث عنها الشاعر هي أكثر بُعد من الوحدة التي يبحث عنها الفيلسوف. إنّه يريد الوحدة من دون زيادة، ولهذا السبب لا يعتقد الشاعر بالحقيقة، التي يفترض أشياء لا وجود لها، بالعلاقة مع الحقيقة والأوهام.

ويبين الكتاب أنه وقعت الإدانة الأفلاطونية للشعر، في «محاورة الجمهورية» باسم الأخلاق: الحقيقة، العدل. كما حصل في العصر الذهبي اليوناني، يدهشنا هذا النور الخفي للنور الذي يسبح فيه الكلّ.

ففي «الجمهورية» صاغ أفلاطون إدانته الواضحة والخشنة، وبهذه الخشونة نغادر كلّ الأشياء التي يحبّها، وفي «الجمهورية» أشاد بأسس مجتمع مكتمل، وهذه الأسس تقـــوم على العدل، ويتـــعارض الشعر مع العدل لأنه يتعارض مع الحــــقيقة، الــــعدل الذي ليس له وجود فــي الحياة الإنسانية.

الشعر كلمة لا عقلانية، إنها كلمة في خدمة النشـــوة، وبها يصبح الإنسان شيئاً آخر، أكثر من كونه إنساناً، كما لو كان يأتي ليسـكن جسده، يحوز على عقله ويحرك لسانه، ويطغى عليه، الشاعر ربما تدفعه إدانته لإبداع ظلال جديدة يصل إلى حد الحديث معها وعنها.. فيصنع ضرباً من الهذيان. والشاعر لا يريد إنقاذ ذاته، إنّه يسكن الإدانة، ويبسطها، يمدها ويعمقها، الشعر حقيقة.. الشعر هو المتمرد الوحيد في وجه أمل العقل، الشعر نشوة، والنشـــوة تطلب من أولئك الذين ليس لديهم أمل، لتمنحهم الطمأنينة.

أمّا عن الموت، فالشعر لا يقبل قهر الموت بالعقل، فالعقل لا يستطيع أن يقهر الموت، ويمكنه أن يقهر الموت بالحبّ فقط.. الحب البائس، الحب الذي يذهب من دون توقف نحو الموت. وفي الأزمنة المعاصرة، ارتبط الإحباط مع الفلسفة والعزاء مع الشعر، والشعر هو صوت التشاؤم، صوت الكآبة والحبّ الزائل، الحبّ الذي لا نريد عزاءً بفقدانه ولا بفقدان ذواتنا، لأننا ننتشي به هكذا.

الشاعر مخلص لما امتلكه، لا يجد نفسه في خانة العجز كالفيلسوف، وهو يتحدث «دون أن يعي ما يقول». والكلّ يلومه، مجده على أساس عدم وعيه لما يقول، لأنه يعلو بكلمته عن مستوى الفهم الإنساني، ويبرهن أنّ ما يختزنه جسده أكثر إنسانية.

ومن دون أن ينتظر تشجيع الآخرين، يسير الشاعر بنفسه إلى لقائهم، إنّه يسكب سحر الموسيقى، تحت قلق الإنسان اليومي، يمزق بضوء الكلمة ظلمات الضجر، إنه يحمل إلى الإنسان الذاكرة والنسيان.

الحبّ كالمعرفة، بحاجة إلى الموت ليزدهر، الحــبّ يتولّد من الجسد، ويجب أن يتـــوب، للوصول إلى المعرفة، وهذه التـوبة عليها أن تتحقق أكثر من الفلسفة، نصل أحياناً إلى التعبير عن ثلاثية، هي: (الحبّ، الجمال، الشعر)، وإلى ما هو أكثر من ذلك أيضاً.. إنّه وســـيط الحبّ الذي يربط ويفك ويخلق الذي يحطم ويستهلك، إنّه الحبّ المتــــيم، هل كان من الممكن أن يحوز الشعر كلّ ما تعرفه الفلسفة؟

إنّ فعل المـــوازاة بين الشعر والفكر، يدفع إلى الاعتقاد بأن الشعر لم يعد وفياً لذاته، ولا يمكن أن يتكون بـــــذاته، ولا يمكن أن يعـــرف ذاتــــه، والخلاصة أنّه لا يمكن أن يزعم وجود ذاته، فإن حصل ذلك يضيع الشعر.