المنمنمات لآلئ فنية أرّخت تقاليد المجتمع وتراثه


تزخر المكتبة العربيّة بالكتب التي تتحدث عن فن المنمنمة والرقش العربي، أو الزخرفة بأنواعها، والذي يُشكّل الخط العربي عنصراً أساساً من عناصرها، وهذه الفنون، إضافة إلى العمارة، من أبرز وأهم مظاهر الحضارة العربيّة الإسلاميّة.

من هذه الكتب: «مبادئ الزخرفة النباتيّة/‏‏‏التوريق» إعداد طالب أحمد العزاوي، «المشهور في فنون الزخرفة عبر العصور» لمحي الدين طالو، «فلسفة الجمال في الزخارف العربيّة (قبة الصخرة أنموذجاً)» للدكتور مروان العلان، «موسوعة الخط العربي والزخرفة الإسلاميّة» لمحسن فتوني، «الخط العربي والزخرفة العربيّة» للدكتور عطية وزه عبود الدليمي، «روائع الفن في الزخرفة الإسلاميّة» للمهندسة عنايات الهندي وغيرها.

فن إسلامي عريق

فن المنمنمات (بحسب الباحث الجزائري موسى كشكش) هو فن إسلامي راقٍ وعريق، عُرف منذ القدم باسم (فن التزاويق) وتطور على يد الفنان المسلم بعدما كان قرين الكتاب، يُستعمل كتوضيح للنصوص الأدبيّة والعلميّة، وأصبح مع مرور الزمن فناً مستقلاً بذاته، يُصوّر الحياة الاجتماعيّة؛ فكان بمثابة المؤرخ الذي نقل عادات وتقاليد المجتمعات في تلك الحقبة من الزمن أو تلك. بناءً على هذا، يمكن اعتبار فنون المنمنمات والزخرفة جزءاً أساسياً في التراث الثقافي الإسلامي العتيق، حافظت عليه بعض الدول، في حين بقي طي النسيان في كثير من الدول العربيّة الإسلاميّة.

اتجاهات ومدارس

من جانب آخر، ينقسم فن المنمنمات الإسلامي إلى اتجاهات ومدارس فنيّة متنوعة، تبعاً لطبيعة الصياغة الفنيّة، وتوظيف عنصر اللون، وتوزيع الكتل والأجسام على سطح الصفحة، إضافة إلى أثر المكان وموجوداته على رؤية الفنان وتعاطيه مع عناصر الطبيعة المحيطة به، وعادة يكون رسماً بالألوان المائية الطبيعيّة التي لا تموت مع الزمن، على غرار الألوان الصناعيّة والكيميائيّة الحديثة، أو الألوان المصنوعة من الصمغ العربي الذائب في الماء كالألوان الترابيّة.

رواد وأعلام

المنمنمة هي صورة فنيّة صغيرة الحجم، تسجل الحياة والبيئة والعادات والمعتقدات والطقوس والأحداث التاريخيّة والعمارة والزي، إضافة إلى قيمها الفنيّة التشكيليّة التي شهدت تطوراً متلاحقاً، وفي نهاية القرن الثاني عشر الميلادي، تكونت أول مدرسة للتصوير العربي في بلاد الرافدين، ثم نشأت مدرسة مملوكيّة لتصوير الكتب والمخطوطات، في الوقت الذي انحسرت فيه مدرسة الرافدين، عقب الدمار الذي لحق بالعراق على أيدي المغول.

من أبرز فناني مدرسة بلاد الرافدين: عبد الله الفضل، محمد بن أحمد بن ناصر الدين. ضمت المدرسة المملوكيّة للمنمنمات نتاج المزوقين العرب في سوريّا ومصر ومن أبرز أعلامها: شهاب الدين غازي بن عبد الرحمن الدمشقي، أحمد بن يوسف بن هلال الحلبي، محمد بن قيصر السكندري، أبو الفضل بن أبي إسحاق.

ملامح إنسانية

ثم انبثق عدد من المدارس الفنيّة في البلدان الإسلاميّة كإيران وتركيا والهند، تأثر فنانوها بأساليب التصوير العربي للمنمنمات، لكنهم في الوقت نفسه، ربطوها بمعطيات محليّة أغنتها ومنحتها خصوصية المكان الذي ولدت فيه، لاسيّما في إيران، حيث ظهرت عدة مدارس لفن المنمنمات منها: المدرسة المغوليّة التي اتبعت في بدايتها المدرسة الرافديّة، ثم ظهرت فيها التأثيرات الصينيّة، ومن أبرز المدن التي احتضنت هذه المدارس: مراغة، بغداد، تبريز، شيراز. ثم جاءت المدرسة التيموريّة التي تألقت في سمرقند وشيراز وهراة، وكان من أبرز أعلامها: قاسم علي، عبد الرزاق، شيخ زاده.

أعقبتها مدارس متعددة كان من أبرز فنانيها: سلطان محمد، شيخ زاده، أقامرك، رضا عباس، زين العابدين، محمد زمان... ومعهم ظهر تأثر فن المنمنمات الإسلاميّة بالأساليب الفنيّة الغربيّة، لاسيّما لناحية عزوفهم عن الصور الصغيرة لصالح اللوحات الكبيرة الحجم التي تُعلق على الجدار، إضافة إلى بروز نزعة رسم الصور الشخصيّة، والتقليل من عدد عناصر المنمنمة التي اقتصرت أحياناً على شخص أو شخصين، بوضعيّة فيها الكثير من التكلف، وبملامح إنسانيّة تماهت فيها الخصائص الذكوريّة بالأنثوية، بحيث يختلط على المتلقي تحديد جنس الهيئة المرسومة، فيما إذا كانت امرأة أم رجلاً! بعد ذلك ولدت في اسطنبول المدرسة التركيّة التي قامت على أكتاف الفنانين الإيرانيين الذين استقدمهم السلاطين العثمانيون ومنهم: شاه قولي، لي جان التبريزي، حسام زاده، صنع الله، عثمان، وحيدر.

أعقبتها المدرسة الهنديّة التي تنقسم إلى المدرسة المغوليّة، ومدرسة راجبوت. تأثرت المدرسة الهنديّة عموماً بالمنمنمة الإيرانيّة، وقد أسس الإمبراطور أكبر أكاديميّة للفنون ضمت نحو سبعين فناناً هندياً عملوا تحت إشراف فنانين إيرانيين. من أبرز الفنانين الهنود الذين رسموا المنمنمات: بازوان، دارم داسي، فروخ بيج، وكان يُشارك أكثر من فنان في رسم المنمنمة الواحدة.