أبو ظبي ـ وكالات
تستهل الكاتبة الإماراتية مريم الساعدي قصص مجموعتها «نوارس تشي غيفارا» (دار أثر – السعودية) بضمير المتكلّم (أنا) مؤدية هي بنفسها دور الراوي الذي يتولى فعل السرد. وهذا الاتكاء على الأنا – الراوي يمنح قصصها قدرة على التحرّر من شروط القصة القصيرة ومن المعايير الثابتة التي عرفت بها ومنها: وحدة الحدث، الإيجاز، ضآلة عدد الشخصيات، الخاتمة... ولعلّ إصرارها على استخدام «الأنا» يشرع أمامها باب القصة التي سمّيت «مختبراً كتابياً» وكان في طليعة كتّابها بورخيس وإيتالو كالفنينو وسواهما من القاصين والروائيين الذين نجحوا في توسيع أفق القصة ومنحها تقنيات وأبعاداً لم تكن مألوفة سابقاً. تسلك مريم في قصصها، هذا الخطّ، جاعلة من القصة نصّاً قصصياً، قائماً على التداعي والانطباع وشبه المونولوغ المختصر والحميمية والنَفَس الذاتي والتقطّع... وما يُسمّى «عقدة» قصصية بدت لدى الساعدي كأنها تنسحب لتحلّ محلّها «عودة البطل أو الراوي إلى ذاته». وليس مستغرباً أن تخضع القصة لما يمكن وصفه نقدياً بـ «التوضيب» التعبيري الاحتمالي الذي يتراوح بين الواقعي والغرائبي أو الفانتاستيكي، كما بين الحقيقي والفنتازي، الشديد الطرافة. وقد يبدو لافتاً جداً أن تعتمد الكاتبة تقنية الراوي – الأنا (ضمير المتكلّم)، دامجة في أحيان كثيرة بين زمن الرواية وزمن السرد. هذه التقنية تمنح القاصّ مزيداً من الحريّة ليعبّر ويتداعى ويخاطب نفسه وكذلك الآخرين. لكنّ الكاتبة لا تلبث أن توحي إلى القارئ بأنّ هذه اللعبة يمكنها أن تكون فعل تماهٍ، بينها ككاتبة، وبين الراوية التي من المفترض أن تكون هي. في ختام قصة «صوفي المقيتة» تفاجئ الكاتبة القارئ قائلة عن سائقتها صوفي التي تكرهها: «هذا خيال طبعاً، ولكن لو استمرت (السائقة) معي يوماً آخر، حتماً سيصير واقعاً». إنها لعبة تماهٍ وتماثل بامتياز: تكون الكاتبة هي الراوية ولا تكونها في آن. في قصة «حبّ لا أحبه» تخاطب الكاتبة أو الراوية الرجل مباشرة، مجاهرة إياه: «لا أحبّ أن أظل طول الوقت مشغولة بالتفكير بك، بك أنت بالذات...». ثم تضيف بجرأة معلنة: «كلّ شيء لا علاقة له بك، لا وجود له...». كأنها مصابة بـ «مرض الحبّ» الذي هو «مرض الموت» وفق مقولة مارغريت دوراس: «الآن... كيف الشفاء منك؟ وإلّا فالموت بك». لكنّ الحبّ الذي لا شفاء منه عادة وحدها الكتابة قادرة على اجتراح معجزة الشفاء منه: «أقرّر أن أجعلك مشروع نص جديد لكي أُشفى منك، لكي تصير بعيداً، لكي أراك على الورق». وتخاطبه أيضاً قائلة: «أنت وجدت فقط لكي أكتبك، وتنتهي حين أضع نقطة على آخر سطر». وفي قصة «رسالة حب» يبلغ الحبّ أقصى مراتب الخيبة عندما لا تجد الراوية أحداً تقول له «أحبك»، هي التي تشعر بالحب وبالرغبة في قول «أحبك». حتى على الهاتف النقال لا تجد مَن توجه إليه هذا القول: «أكتب العبارة وأتجه إلى خانة المرسل إليه، أتوقف للحظات، ثم أتذكر أنّ لا أحد لديّ يمكن أن أرسل له هذه العبارة». لكنّ الكاتبة لا تسمح لراويتها الخائبة أن تقع في الحزن، فتلجأ إلى السخرية، كعادتها في مثل هذه المواقف، وعوض أن ترسل مفردة «أحبك» إلى رجل تبعث بها إلى صديقة تنتظر مثلها هذه الكلمة – الجملة. ولا تمضي ثوانٍ حتى تحصل على جواب مماثل. وفي السرير تخاطب نفسها: «ربّما هذا أقصى ما سأحصل عليه أبداً». لا رومنطيقية هنا، ولا بكائيات ولا شجن، حتى عندما تعبّر الراوية عن عزلتها ووحدتها (لماذا أنا حزينة إلى هذه الدرجة؟ لماذا أنا وحيدة إلى هذه الدرجة؟ تقول في إحدى القصص). إنها السخرية التي تلجأ الراوية (الكاتبة) إليها لتواجه قدرها الذي لا تكرهه ولا تأسف له، بل هي تجعل منه حافزاً للهزء و «الهتك» إن أمكن القول. تبرز السخرية إذاً بشدة في قصص مريم الساعدي. سخرية تسعى إلى عدم توفير أحد أو قضية – أياً تكن – أو مبدأ. تسخر الراوية حتى من نفسها في ما يشبه «الهجاء الذاتي» والموقف العبثي من الأنا والعالم. وتكتسب السخرية لديها كلّ «ألوان» السخرية: السوداء «المتطيّرة» والصفراء «الممتقعة» والبيضاء التي لا تخلو من براءة. إنها تسخر حتى من اللغة نفسها، من التعابير الزائدة التي تحفل بها اللغة كأن تقول: «ما لا ناقة لك فيه ولا جمل ولا صرصور»، أو: «بعد كيت وكات» (عوض أن تقول بعد كيت وكيت)، أو: «لا أحب» إلخ «أيضاً، لأنها خادعة... هذا خداع، من الأصدق أن تضع نقطة عندما تشعر أنك انتهيت...». أما السخرية السوداء فتتمثل أجمل تمثلاتها في نص «لست على ما يرام» وفيه تقرّر الراوية أن تُخرج روحها وتُجلسها أمامها وتعدّ لها كوباً من القهوة وتتحاور معها لتعرف منها ماذا تريد بالضبط. تصبح الروح هنا بمثابة القرين الذي ترى فيه الراوية نفسها. لكنّ هذه الروح التي تبصرها الراوية «جالسة على الأريكة»، لا تفتأ أن تختفي، عندما تفتح الراوية عينيها فتقول: «تذكرت روحي، قفزت أبحث عنها، أين هي؟» هذه القصة أو هذا النص القصصي هو من النصوص النادرة التي تناولت حال الانفصام المتوهم الذي يعيشه الإنسان، لا سيما عندما يشعر بأنه «متعب من عالم البشر»، كما تقول الراوية. في قصة «جدي الذي في الزاوية» تعبّر الكاتبة عن العزلة التي تصيب الإنسان في شيخوخته، العزلة غير الناجمة عن ميل العجوز إلى التوحد بل «لأن أحداً لم يعد يعتقد أنه موجود». وفي لقطة ساخرة جداً تقول إنّ أولاد هذا الجد الذين يريدون الذهاب إلى الجنة بعد الموت وجدوا فيه جسراً إلى هذه الجنة الموعودين بها فعاملوه معاملة صالحة ولكن، من غير أن يوجّهوا إليه «كلمة ولا نصف كلمة ولا ربع كلمة». وفي قصة «سحلية رملية على جدار أملس»، وهي من القصص البديعة، تعمد الراوية (البطلة) إلى تقشير الجلد الجاف على شفتيها، فتقول لها إحدى النسوة: «حرام هاتان الشفتان الجميلتان... ستأكلينهما تماماً». ولم تكن حركة تقشير الشفتين إلا ردّاً على حال السأم الذي يعتري البطلة: «ثم أفكّر أنني لو استمررت في هذا السأم سآكل جسدي كلّه، ولن يبقى سوى أسنان قارضة والأظافر على عظام القدمين واليدين». هذه حالة «فامبيرية» تنم عن سخرية ذاتية تذكّر بالقصص الفانتاستيكية عن أكلة لحوم البشر، لكنّ البطلة هنا هي من «أكلة لحم الذات». وتختتم الكاتبة هذا النصّ القصصي ختاماً ساخراً أيضاً: «ربما لو يأكل لي أحد رأسي لن أضطّر إلى أكل بقية الجسد... مَن يأكل رأسي؟». لعلّ كاتبة «ينبت سارتر في رأسها» ويتربّع «كافكا على عرش قلبها» كما تعبّر مريم الساعدي، هي كاتبة عبثية بامتياز، لكنّ عبثيتها هي سليلة الحياة نفسها، سليلة التجربة الحيّة وليس التأمل الفلسفي والفكري. في هذا المعنى تبدو عبثية الساعدي عبثية الإنسان الذي يعاني ويشك ويسأل ونادراً ما يجد الأجوبة التي يرجوها. موقفها العبثي من العالم ليس قاطعاً ونهائياً، إنّه وليد لحظة السأم والرتابة والخيبة، وليد حال الانقطاع الذي يحول دون التواصل مع العالم كما مع الآخرين. في قصّة «ثوب زهري في جنازة جدّتي» تقرّر الراوية أن ترتدي ثوباً زهرياً وأن تكحل عينيها في جنازة جدّتها وكأنها شاءت ألا تصدّق أنها ماتت. وفي المستشفى تسأل جدّتها وهي مسجاة على سرير الموت: «جدّتي... كيف حالك؟»، وتجيبها: «بخير، فقط ميتة». وتنتهز الراوية واقعة الموت هنا لتطرح سؤالاً جوهرياً وعبثياً في آن: «لماذا يجب ألا أرى جدّتي أو أيّ شخص أحبه، فقط لأنّه مات؟» وتضيف: «ألم يعلّمونا دوماً أن الروح هي الأهم وأن الجسد فانٍ؟ فلماذا، إذاً يقف الزائف الفاني عقبة أمام تواصل الحقيقي الخالد؟». ومثل هذه الأسئلة تظل بلا أجوبة لأنها تصيب معنى الوجود وعبثيته. وفي غمرة السأم و «الحال العدمية المدقعة» والإحساس بالبرد في عزّ الصيف الحارّ، لا بد للراوية أن تلمس رتابة الزمن. «هو يوم آخر»، يوم يشبه اليوم الذي سبقه والذي يليه: «كل شيء يبدو كما كان أمس واليوم الذي قبله، وفي اليوم نفسه من السنة الماضية والتي قبلها». وفي نصّ بديع عنوانه «مثل وعاء خزفي فارغ» تتجسد ذروة الخواء الذي يحفر في الذات: «النهار والليل أصبحا مجرد لونين يتناوبان، أسود أبيض، مظلم مضيء، غامق فاتح». وتختتم قائلة: «ما أجمل أن تكون وعاءً خزفياً... وفارغاً». ولا بدّ لها في وسط الغربة الوجودية التي تحياها من أن تقول على غرار الكاتب البرتغالي فيرناندو بيسوا صاحب عبارة «أنا لا أحد»: «أنا الآن لا أعرفني، لذلك سأحاول أن أتعرّف إليّ مجدداً». وفي قصّة «الآن والبرد والضجة» تحلم الراوية بما حصل في قصة الكاتب الروسي غوغول «الأنف»، فالبطل الذي يدعى كولياكوف، يستيقظ مرة ويجد وجهه بلا أنف. أما هي فتقول: «حلمت أنّ أنفي سقط مني وظللت طول الليل أبحث عنه في صحراء». كتاب «نوارس تشي غيفارا» لا يمكن اختصار قصصه ونصوصه، في ما تضم من مواقف وأحوال وأفكار، وفي ما تقدم من مشاعر وأحاسيس. هذا كتاب فريد في نسيجه القصصي أولاً والكتابي ثانياً. وكانت الكاتبة محقة في جعل فعل الكتابة (والقراءة أيضاً) هاجساً ملحاً من هواجس الراوية لديها، نصاً تلو آخر. فالكتابة هي التي «تمنح الشعور بالامتلاء» كما يقول لويس كالافيرت. والكتابة هي في صميم البحث عن الوجود الذي يقابله البحث عن الهوية. كتاب «نوارس تشي غيفارا» يقرأ بشغف ومتعة، إنهما الشغف والمتعة الناجمان عن عمق السرد وجماليته، وعن الطابع التجريبيّ الذي أسبغته مريم الساعدي عليه، متحرّرة من ربقة المعايير الجاهزة التي يفترضها فن القصّة.