أبو ظبي ـ مصر اليوم
صدرت للقاصة روضة البلوشي مجموعتها القصصية الأولى «باص القيامة» عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث عام 2009. وتضمنت 20 قصة قصيرة، توزعت بين ما هو يومي وحياتي في العلاقات الاجتماعية والموقف منها، ودائماً ما يكون الموقف كشافاً عن ثقافة الأنثى ودورها في المجتمع، وتفاصيل وجودها، كذلك السرديات المندهشة بالاكتشاف والمعرفة لأول مرة كما في قصة «العورة»، واللعب باللغة السردية وكأن روضة تكتب نصاً شعرياً في كثير من الوحدات السردية، حيث التأنق في المفردة والدقة بالاختيار وشيوع الرومانس في كثير من القصص. ولعل أبرز القصص المعبرة عن هوس القاصة بالشعر في السرد هي قصة «أحميك يا وجلي» وكأن القاصة تقول ما هو مجاور للشعر أكثر من حضوره في السرد، ووجدت بأن لغة السرد مرتبطة بمرحلة الستينات في السرد العربي والعراقي حصرياً وخصوصاً في تجربة القاصة لطفية الدليمي. ويبدو بأن اللغة/ الإنشاء معبر أكثر عن مكنون الأنثى لذا دائماً ما تلجأ له: «إلي تتوسل يا كل بعدي.. إلي تتوسل يا نبض الخافق فأخفي وجهي عن صوتك بيدين راعشتين.. آه ما أشقاك.. أنت إذن لا تصدق بأني أخاف على أنفاسك من غفوة الريح، من نفسي أخاف عليك وعليّ.. من خوفي أخاف.. لأني أحبك أخاف.. وليس على الأرض أنثى تقمط وليدها بغلالة حلم مثلما أنا أفعل» (ص68). بالإمكان التعامل مع هذا النص الطافح بالإنشاء واعتباره إنموذجاً لملاحظتي، على الرغم من وجود نصوص أكثر في الهوس نحو الشعر والتأنق.. ومثل هذه اللغة تشوش على النص بما تثيره من دهشة. الغرابة حاضرة فيها، لأنها غابت عن السرد منذ عقود، لكننا فوجئنا بسيادتها في قصص روضة البلوشي. وعلينا ملاحظة قصص الاستعادة واسترجاع الذاكرة المزمنة، الكاشفة عن مرحلة الطفولة، حيث لغة السرد هادئة غير متوترة كما في قصة العورة حيث السرد البسيط والدقة في مراقبة الحدث القصصي ومعاينة المتحقق والإعلان عنه بلغة مرنة وأعتقد بأن قصة «العورة» ناقلة برسالة التعرّف من قبل بنتين تعرفتا على ما أراده الشاب الهندي الذي ظهر فجأة من وراء إحدى السكيك وتحدث بلغة غير مفهومة، لكنه اختصر اللغة كلها من خلال الإشارة، مكتفياً بها للإبلاغ عن الذي أراده: «... بدأ في التبول على الجدار.. ذلك العري الذي لم يسبق لنا أن رأيناه من قبل إلا كومضة عبر إخوتنا الأصغر سناً.. لقد كان يجرح عيوننا من خلاله.. كان عرياً غريباً وقبيحاً الى حد إنني رأيته مصاباً بحرق قديم ذي نكهة ملحية، أو ربما كان مصاباً بالبرص.. لكن هل كان مصاباً بالبرص حقاً أم أنني وبعد كلا هذه السنين أتوهمه أبرص؟» (ص150). سؤال مهم تثير قصة «العورة» سؤالاً مهماً ومثيراً حول مراقبة الشاب الهندي ومعاينة ذكورته الموصوفة بدقة والتي ظلت ماثلة لزمن طويل في ذاكرة البنتين، بحيث قالت الراوية أكثر من مرة بالصورة المفترضة له: «هل كان ملتحياً ولحيته خفيفة ومتناثرة أم انه كان حليقاً وأنا بعد مرور هذه السنوات أتخيله بذقن غير حليق؟» (ص148). لم تكن صورته مشوهة، لأنه الأول الذي استفز مخيلة البنتين بالإعلان عن عورته، ولم تقل لنا الراوية سبب الكشف عن العورة بالطريقة التي أشار لها السرد؟ لم يتوفر الشاب الهندي على نوع من أنواع التخاطب، كي يحقق تواصلاً معهما، لذا اضطر للعلامة الذكورية، دفع بها خارج بنطاله وابتدأ بالتبول، لقد اختصر رغبته وحاجته الحسية بالآلية المشار إليها: «كانت الرجفة لا تزال تعترينا ونحن نشعر بالخجل من آخر ما علق في ذاكرتنا، أرخينا عيوننا نحو الأسفل قبل أن نرفع وجوهنا للأعلى، حيث سرب العصافير الرمادية تعبر من فوقنا بسرعة شديدة» (ص151). بالإمكان التعامل مع هذه الخاتمة لقصة «العورة» بوصفها إنموذجاً للخاتمة الفنية المميزة للقاصة روضة البلوشي، التي تترك المتلقي حراً وسط فضاء السرد المفتوح على الترقب والتشوق، وكثيراً ما كان للخاتمة السردية طاقة مساعدة على التأويل، بسبب الشعرية والتوصيف الرمزي الذي يذهب بعيداً نحو المعنى، والدليل على هذا الرأي الخاتمة المشار لها قبلاً والتي تمثل قدرة روضة البلوشي في اختيار لغة حسم الخاتمة وترك الباب مفتوحاً. في سرد الخاتمة إشارة للرعشة المداهمة لجسد البنت الساردة بعد سنوات طويلة ظل الجسد محتفظاً لرعشة اللحظة الأولى المدوية، التي وضعت البنت أمام تصور حتمي للذي أراده الشاب الهندي، وكان هروبهما رفضاً واستهجاناً لما فعله، لكن تفاصيل السرد القليلة، أفضت نحو رمز العصافير التي تنطوي على معنى حسي مضاعف، مثلما هو دال على الغربة ومغادرة مكان أول نحو آخر، كما أنها تفضي نحو تفصيل المنفى والهجرة. اكتشاف أكذوبة أعادت قصة «مثل شاة مريضة تقفين» الإزاحة المجتمعية للأنثى وإخضاعها لخطاب الرجل، الذي يعبر دائماً عن ثقافة السلطة السياسية/ أو القبائلية. إنها مفارقة مستمرة، تنتجها حياة الأنثى في المجتمعات العربية وتؤدي بها للقتل ويتم اكتشاف أكذوبة الحبل، لان «الممرضة اللعينة هي السبب.. أخطأت نتيجة الفحص... كان الملف لمريضة أخرى!» (ص37). تلاشت تهمة حبلها بالطريقة التي أرادتها روضة البلوشي وتسيّدت المفارقة التي لم تعد حاضرة كثيراً في السرد مثل حضورها في الكتابة الشعرية الجديدة. هذه القصة تضيء لنا إشكالات التجربة السردية لدى روضة، حيث اللغة المعلنة عن شيء مع تراكم للوقائع من اجل وحدات سردية جديدة. لكن أقول بأن القاصة أنتجت قصة جميلة، اعتماداً على اللامعقول وسيادة الغرائبي في الوقائع السردية، وتفاصيل الحياة اليومية بين زوجين، ونجحت روضة البلوشي في إعلاء اللامكشوف، واللامألوف في المألوف، وهذه من عناصر الشعرية الجديدة الآن في عدد من تجاربها في الوطن العربي، ففي قصة «تعذبني أشياؤه» (ص9)، اختصرت كثيراً من الوقائع الحياتية بين الزوجين وبطريقة مثيرة للدهشة، لأن السرد اختار اللامعقول، المعلن عن حياة الزوج الغامضة، المتوترة، القلقة، التي لا تشبه حياة أخرى، فقد تحول هذا الزوج في سرد روضة البلوشي الى أشياء وكيانات وممارسات متباينة ومختلفة، صار مرة زجاجة معبأة بالملح، وتحول الى مرآة عند مدخل المنزل، وصار شجرة نارنج: «لكنه ظل يتحول الى أشياء أخرى كثيرة تجعلني لا أنام.. تحول الى أشياء أعرفها أحياناً وتؤلمني أحياناً أخرى.. تحول الى ساعة وسفرة طعام، الى باب خشبي قديم، وتحول الى سرير نومنا، الى جوارب، قلامة أظافر، الى زر قميص وتحول الى شاب متهور عاكسني .. وتحول الى سجادة صلاة» (ص12). أهم ما في هذه القصة إشارات سريعة لتحول الكائن الذي هو زوجها، لتعبر عبر هذا عن العلاقة بينهما، مثلما تفصح عن موقفها منه، حتى توصلت الى عدد من تحولاته، التي هي صفاته أو ما يتمظهر هو من خلالها. ان كانت تحولاته الأولى مقبولة، لكن الأخيرة أضاءت حياة الزوج، وكشفت تفاصيله المخفية والتي لا يعرفها أحد آخر، فضحت كل ذلك، لم تتكتم عليها: «تحول الى حذاء رجالي أسود.. تحول الى عدّة سباكة ثم تحول الى مفتاح سيارة.. ثم تحول الى أعقاب سجائر وأدخنتها، تحول الى أطفالنا الثلاثة الذين يشبهونني أكثر ما يشبونه تحول الى مئات الصور الموزعة في إرجاء المنزل وفي البومات الصور التي احتفظ بها بعد رحيله عن حياتي منذ عام وبضعة عام» (ص13). طريقة غرائبية تختلف هذه القصة عن قصص المجموعة في اختيار وحدتها السردية وتوظيفها بطريقة غرائبية، غير مألوفة من قبل، واشتغل الغرائبي على كشف المضمر بين الاثنين، وقالت القصة كثيراً من اللعنات ضده، واقسى الشتائم، التحول الذي ظل لازمة للجملة السردية، كرس فعل إضاءة المخفي في شخصية الزوج، والمسكوت عنه طويلاً، خلال زمن طويل، انجبت فيه ثلاثة من الأبناء، هم أقرب إليها شبها. خسر كل شيء، حتى أطفاله الذين لا يشبهونه، غادرته الزوجة وفي ذاكرتها صور تحولاته، وكشوف حياتها معه، قالت (ألبوم الصور)، لكنها تعني خزان الذاكرة. أما قصة «للنخيل معها حكاية» فهي سردية اختارت تنوع الهويات واختلافها بين الزوج العراقي والزوجة النابلسية وهذا ما ركزت عليه روضة البلوشي، فالذاكرة خزان ثقافي ماثل باستمرار في تفاصيل حياة الكائن الذي عاش خارج محيط تخيلاته الأولى، مثل الأب البغدادي، والأم النابلسية، كل منهما له هوية خاصة، صاغتها مرويات الذاكرة وتفاصيلها، وعلى الرغم من اندماج الاثنين بحياة زوجية استمرت طويلاً، لم تستطع المرأة النابلسية تحمل القطيعة المكانية، حيث مركز هويتها الثقافية اليقظة التي زاولت ضغطاً مستمراً عليها، وواضح بأنها قاومتها، وقاومته، حتى اللحظة التي لم يكن بالإمكان التآلف مع المكان الآخر. لم تستطع الزوجة/ الأم التعايش مع مرويات مختلفة مثلما لم تتمكن من تداول سردياتها الأولى، وحصل لها ما يشبه تعطل التواصل والتبادل مع الآخرين: «حين عدت من عملي أخبرتني أمي أنها جاءت وتركت لي رسالة وغادرت على عجل: صديقتي الحبيبة... أمر طارئ أجبرني على لملمة نفسي وأغراضي وكتبي البائسة... مضطرة للرحيل دون وداعك... سامحيني وتذكريني عند كل نخلة تصافحها عيناك السابحتان» (ص56). وحدت الابنة بين الكائن الأنثوي والنخلة، فتماهت هي وصديقتها وأمها العائدة الى نابلس مع النخلة، الرمز العراقي الممتد عميقاً في جذور التاريخ القديم، حتى تحول رمزاً أسطورياً دالاً على الخصوبة والتجدد. وثانية سأختار خاتمة هذه القصة لتأكيد ملاحظتي السابقة وكمون الشعرية فيها وانفتاحها على تعدد المعاني: «وكأن وجهها الوسيم مغيبّا خلف الأقنعة الخضر وجذوعها لحاء لها تخفيها عني وعن هزائم أمتي وعن الشرق الخجول بأسره... حين رفعت وجهي نحو سماء الله رأيت سرباً جميلاً من الطير يحلق نحو الغرب... خيّل إليّ أني لمحتها بينها تطير في جذل وتعلن عودتها منتصرة». (ص57).