لندن - رانيا سجعان
قامت المؤلفة والطبيبة هيلينا رايت بمساعدة النساء اللاتي لم يستطعن إنجاب الأطفال، واللاتي عاد أزواجهن من الحرب العالمية الأولى وهم غير قادرين على الإنجاب، وعاونها في ذلك شخص طويل القامة، وسيم (مع الأسنان لائق)، ذكي، وحسن التربية، وصحي - وفحْل بشكل موثوق فيه، يدعى ديريك، وذلك عن طريق "الخدمة السرية"، وكل امرأة ترغب في أن تكون أمًا وقّعت على تعهّد للبقاء صامتة، ودفعت 10 جنيهات
إسترلينية إلى صندوق إنمائي سمح لهيلينا بإدارة الخدمة، وتغطيتها، ورعايتها في عياداتها.
وتوجد في هذه الأيام حلول علمية متطورة لمشكلة عدم الإنجاب مثل "أطفال الأنابيب، الفياغرا، والتبويض، والخدمات التي تُقدِّم وتمنح الحيوانات المنوية"، ونحن نفكّر في هذه التطورات الحديثة، ونشعر بالامتنان للعصر الحديث.
ولكن هناك عدد قليل جدًا من الناس هم الذين يدركون أن قبل فترة طويلة كان التبرع بالحيوانات المنوية عمليًا أو أخلاقيًا شيئًا ممكنًا، وفي أوائل القرن 20 كانت خدمة التبرع بالحيوانات المنوية سرية، وكانت موجودة للسيدات اللاتي في أشد الحاجة إليها.
كانت هيلينا رايت طبيبة مشهورة، ومؤلفة لكتب هي الأكثر مبيعًا، داعية ومعلمة تغلبت على علاج وسائل منع الحمل الرائد في إنكلترا وجميع أنحاء العالم، حبوبة، ذكية، مضحكة وجذابة، وكانت هيلينا لها أسلوب في الحديث، ومجموعة مكرّسة من الأصدقاء، وكانت تعشق الرجال، وقضت حياتها في مساعدة النساء.
وحقّقت نجاحًا كبيرًا في أميركا وأوروبا من خلال كتاب يحمل اسم " عامل الجنس في الزواج"، والذي موّلت من خلاله ممارستها وعيادتها الطبية المبتكرة، فقامت بفتح عيادتين في لندن، إحداهما للنساء المتميزات جدًا في نايتسبريدج، والأخرى للفقراء في نوتينغ هيل.
ومن خلال هاتين العيادتتين قامت بأعظم الأعمال، من خلال مساعدة مئات السيدات اللاتي عاد أزواجهن من الحرب العالمية الأولى وهم غير قادرين على الإنجاب.
وفي الفترة من 1914 إلى 1981، قُتل حوالي مليون جندي بريطاني في فرنسا وبلجيكا، وجُرح الآلاف بالغاز أو بالقنابل، وهذه الخسائر المروّعة تركت السيدات أرامل، وأدى ذلك إلى نقص في الأزواج المحتملين.
ومع حلول العام 1921، أصبح في بريطانيا فائض بمعدل 1،7 مليون سيدة، وكانوا يعرفون بـ "الكثرة أو الحشد غير المتزوج".
وأشارت الكاتبة فيرا بريتين، التي كتبت عن الحرب في مذكراتها " عهد الشباب Testament Of Youth"، إلى الإعلان المذهل الذي شاهدته العام 1915 "الفتاة التي قُتل خطيبها، بكل سرور سوف تتزوج ضابطًا أعمى تمامًا أو عاجزًا بسبب الحرب".
وكان الرجال المحظوظون بما فيه الكفاية أؤلئك الذين تأهّلوا للعودة إلى ديارهم وزوجاتهم بعد الحرب، ولكن كان العديد منهم غير قادرين على الأداء الجنسي، سواء بسبب إصابة مباشرة أو تأثرهم بصدمة من قذيفة، وهو ما كنا نطلق عليه "اضطراب إجهاد ما بعد الصدمة".
كان موضوعًا حساسًا، وقرار الشاهد لورنس لجعل كليفورد شاترلي، عاشق الليدي شاترلي، "فقط نصف رجل"، حرمه من فحولته بسبب الحرب، وتم اعتبار هذا الجانب من الرواية خرقًا قاسيًا للمحرمات.
لا عجب، إذن، فمع حلول العام 1918 أصبح لدى هيلينا رايت مئات السيدات في كتبها، ممن كشفن إليها في أسرارهن بأنهن في حاجة إلى المساعدة.
أَحَبّت هؤلاء النساء أزواجهن، لكنهن أيضًا يرغبن في إنجاب الأطفال، وما كُنّ في حاجة إليه هو مانح الحيوانات المنوية، قبل وجود شيء من هذا القبيل، وكانت هيلينا رايت لا تخشى من الجدل في هذا الشأن، وتغلّبت على التحيزات والأحكام المسبقة من المؤسسة الطبية، واعتراضات عائلتها بالتأهل والحصول على الشهادة العليا لتصبح طبيبة العام 1914.
يُقال "إن مهووسي اليوم "مَن لديهم أفكار غريبة" هم أنبياء الغد"، جعلت لنفسها مذهبًا أخلاقيًا، وتركت العالم يلحق بها، وكانت رائدة في تنظيم الأسرة، وقدّمت "العلاج الجنسي" قبل وقت طويل من صوغ هذا المصطلح، ولكن كانت خدمة الخصوبة السرية التي قدّمتها هي الأبرز في مسيرتها.
بدأت هيلينا في العام 1919، في البحث عن شخص معيّن، شخص يمكن أن ينجب الأطفال للسيدات اللاتي في كتبها، من دون أن يكون هناك أيّ علاقة عاطفية، لأنها في حاجة إلى رجل بمواصفات معينة: طويل القامة، وسيم (مع الأسنان لائق)، ذكي، وحسن التربية، وصحي - وفحْل بشكل موثوق فيه.
وتحوّل الجواب إلى أن يكون الشخص هو ديريك، ووُلد ديريك في العام 1889، مع أخيه جورج، ونشأ كل منهما في إنكلترا ، وانتقل بعد ذلك إلى سيلان، حيث كان لوالده شراكة في مزرعة مطاط وشاي.
مثل هيلينا رايت، كان ديريك متساهلاً مع ما يعتبرها العديد من معاصريه بأنها "مذاهب أخلاقية غير تقليدية"، وكان والده إدوارد، الذي أنجب ديريك وأربعة أطفال آخرين من زوجته، معجبًا بابنة بائع التبغ سلون سكوير Sloane Square الجميلة.
وكان إدوارد يقف كل صباح ليشاهد هذه الفتاة إيلين، ويوم عيد ميلادها الخامس عشر توصل إلى اتفاق مع والدها، وقد دفع 15 جنيهًا ذهبًا لإيلين، ونظّم ليكون مع عشيقته في شقة في شارع سلون، وأنجب الثنائي اثنين من الأطفال.
وفي الوقت نفسه، في سن الـ 19 عامًا، أصبح ديريك رجلاً وسيمًا وشابًا جذابًا، وتم إرساله الى ماليزيا لتشغيل مزرعة مطاط أخرى في العام 1909، حيث كان هناك طلب كبير على المطاط لصناعة الإطارات للحصول على أحدث السيارات.
مسح ديريك، وهو في سن المراهقة، الغابة، واستأجر القوى العاملة، وبنى بيتًا من تصميمه الخاص، ووظّف ثلاث فتيات لطهي الطعام، والغسل والحفاظ على المنزل نظيفًا له.
وهناك صورة فوتوغرافية في ذلك الوقت قام ديريك بالتقاطها تظهر فيها الفتيات الثلاث وهن يتمدّدن على الأرض، وينظرن إلى الكاميرا، وتبدو عيونهن سوداء كالفحم، شعرهن قصير، وبشرتهن متألّقة على الرغم من نسبة زيت جوز الهند، وكانت الفتيات جميعًا عاريات، وليس هناك شكّ في أنهن كنّ زوجاته أو حريمه الخاص.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى كان ديريك أُمِر أن يبقى في منصبه في تطوير المطّاط للجهد الحربي، بينما التحق شقيقه الأصغر جورج بالجيش.
وكان جورج يبلغ من العمر 18 عاًما فقط، وفي 1 تموز/ يوليو 1916، قاد جورج رجاله نحو الخطوط الألمانية في السوم، وتم اعتراضه بوابل من نيران المدافع الرشاشة الألمانية، وتوفي في ما أصبح أسوأ مذبحة حرب، وأعاد الجيش خاتم جورج، وقام ديريك بارتدائه بقية حياته.
وفي العام 1918، في اختتام الهدنة بين ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، عاد ديريك إلى إنكلترا، وهناك كان يبحث عن أي وسيلة ولو صغيرة لتخفيف خسارة جورج، وقال إنه اشترى سيارة "رولز رويس"، ليسعد والدته بقيادة 100 م على الطريق السريع في مضمار سباق بروكلاندز في ساري.
وجاء الخلاص عندما التقى الممرضة الشابة سوزان، التي ستصبح زوجته فيما بعد، وفي العام 1919، قدّمته سوزان إلى الدكتورة هيلينا رايت، وكان اجتماعًا بالغ الأهمية، فمع تطوّر صداقتهما، أفضت هيلينا إلى ديريك، موضحة أن لديها قائمة من ألف من النساء اللواتي لا يمكنهن إنجاب أطفال نتيجة لما أصاب أزواجهن في الحرب، وأوحى هذا الكلام لديريك بفكرة أنه يمكنه أن يساعد.
بدوره، أفضى ديريك إلى هيلينا مخاوف خطيبته سوزان بأنه كان مفرط الرغبة الجنسية، ومدى ما يشعر به من ذنب عميق، وحاجته إلى أن يكون مفيدًا بعد وفاة شقيقه.
ومن هنا نشأت "الخدمة السرية"، وكل امرأة ترغب في أن تكون أمًا وقّعت على تعهّد للبقاء صامتة، ودفعت 10 جنيهات إسترلينية إلى صندوق إنمائى سمح لهيلينا بإدارة الخدمة، وتغطيتها، ورعايتها في عياداتها.
وتقرر ألا يكون هناك أي اجتماعات مسبقة بين ديريك والنساء، وذلك للتقليل من المخاطرة، أو إعادة التفكير في الأمر.
وكانت كل امرأة ترسل إلى هيلينا برقية مع الميعاد الأمثل بالنسبة إليها، والأزواج كان لديهم الاختيار إما بالاجتماع مع ديريك أو الذهاب بعيدًا (ومعظمهم ذهب بعيدًا)، على أن يتمّ تحديد موعد للزيارة.
وقبل الموعد الذي يتم اختياره، ترسل هيلينا برقية إلى ديريكـ، وفي الليلة الموعودة يرتدي حُلّة داكنة وقميصًا أبيض، مع قبّعته الهومبورغ وحقيبته الجلدية السوداء التى تحتوي على رداء للنوم وزجاجة من البراندي، وكان حسن خلقه، وابتسامته وحماسه هما المكمل الرئيسي لطلّته.
وكانت بعض النساء المحرومين من الجنس في إطار الزواج تواقات لتكرار الزيارة، ولكن الهدف من الخدمة السرية هو زيادة تماسك الزواج بين الزوجين من خلال وجود طفل، وعمد كل من ديريك وهيلينا إلى التقليل من أيّ إجراء من شأنه إحداث اضطراب للسلام بين الزوجين.
أما بالنسبة لزوجة ديريك، سوزان، فقد بدت وكأنها تستوعب الأمر وتتفهمه بشكل ملحوظ.
وزار ديريك ما يقرب من 500 امرأة في السنوات التي تلت، والعديد منهن حملن بالفعل، لكنه لم يقُم أبدًا بأيّ زيارة ثانية لأيّ منهن. وفي كل مرة يولد فيها طفل جرّاء نشاطات جهاز الخدمة السرية، تقوم هيلينا بإرسال برقية لديريك، وكان ديريك وهيلينا يحققان نجاحًا لا يمكنهما التباهي به، فقد تمكّنا من منح العديد من الأسر التي لم يكن لديها فرصة للإنجاب طفلاً.
وفي سياق مسيرتها الطويلة، كانت هيلينا مثارًا لجدل كبير وموضوعًا للعديد من القضايا القانونية، واعترفت أنها فى الأربعينات رتّبت عمليات إجهاض غير قانونية، وفي الخمسينات كانت تشرف على عمليات التبني (الجمع بين النساء الذين لديهم حمل غير مرغوب فيه مع الأزواج المحرومين من الأطفال).
وفي نهاية المطاف، حُوكمت بتهمة انتهاك قانون التبني، وفي العام 1968، قالت في المحكمة "إنها مذنبة"، ولكنها مُنِحت عفوًا.
وكانت حياتها الشخصية نشطة تمامًا، كما كانت حياتها المهنية. ففى أيار/ مايو 1916، وبينما كانت تعمل في مستشفى بيثنال غرين في لندن التقت الكابتن بيتر رايت، وهو جرّاح في الهيئة الطبية للجيش الملكي، وتزوجا بعد ذلك بعام، وأنجبا أربعة من الأبناء، وكان الزوجان يتمتعان بعلاقة "متحررة"، فقد كان لكل منهما علاقاته المتعددة.
ومن خلال ممارساتها الطبية شجّعت هيلينا مرضاها على الدخول في علاقات خارج إطار الزواج.
وكان لدى هيلينا علاقة غرامية مع المهندس المعماري ومصمّم الحدائق أوليفر هيل، وعلاقة طويلة أخرى مع بروس ماكفرلين، وهو صديق للعائلة، ومؤرّخ للقرون الوسطى في جامعة أكسفورد، وكان الأصدقاء والأسرة على علم بالترتيبات غير التقليدية بين هيلينا وزوجها بيتر، واستمرت هيلينا في العمل والسفر حتى سن 93.
أما ديريك فأنجب 496 طفلاً بين عامي 1917 و 1950، وكان لديه ثلاثة أبناء فقط من زواجه الشرعي، واثنان من الأبناء من عشيقة والده التي اتخذها عشيقة له بعد وفاة والده، ثم كان هناك أربعة من الأبناء تركهم وراءه في مالايا.
وبعد إصابته بحالة إعياء قاوم بكل دهاء كل محاولات ادخاله إلى المستشفى، وتُوفّي العام 1974، على فراشه.
وفي غضون سنة من وفاته، ظهر إعلان "برايفت آي" يقول: "50 جنيهًا إسترلينيًا لعلاقة مؤقتة تؤدى إلى الحمل."
ولم تعُد مثل هذه الخدمات تجري في سرية، ولكن باتت معلنة، وها قد تم رفع الحظر عن أحد المُحرّمات الاجتماعية الأكثر حساسية.