منظمة "صحافيون بلا حدود"

في تقريرها السنوي عن الحريات في العالم اعتبرت منظمة "صحافيون بلا حدود" أن تركيا عززت موقعها من بين الدول الأكثر تعرضاً للحريات الصحافية وتضييقا على الصحافيين . ومن بين 180 دولة وردت في التقرير، جاء تصنيف تركيا في المرتبة 149 لجهة تراجع الحريات الصحافية .

الرقم هنا ليس سوى مجرد إشارة إلى الحالة العامة التي تمضي فيها تركيا منذ أكثر من سنتين، وهي تحويل الدولة التركية إلى دولة الحزب الواحد والشخص الواحد مع ما يتطلبه ذلك من تعديلات قانونية في صلاحيات المؤسسات، ولا سيما القضائية لتشريع التدابير القمعية التي تنوي حكومة حزب العدالة والتنمية اتخاذها ضد خصومها ومعارضيها .

ما يبرز في هذا المجال هو ما سمي بالرزمة الأمنية التي قدمتها الحكومة إلى البرلمان، وتمنح صلاحيات واسعة لقوات الشرطة وللمحافظين التابعين مباشرة للحكومة في الاعتقالات، والأمر حتى بالمحاكمات القضائية بما يضع السلطة القضائية بيد المحافظين وقوات الشرطة .

وكان الاعتراض الأول على ذلك من نقابات المحامين التي وصف رئيسها متين فيزي أوغلو الرزمة بأنه عودة لتركيا إلى عهود الأحكام العرفية وتخريب الاستقرار الاجتماعي .

ورأى فيزي أوغلو ان الاسم الذي لم يوضع على هذه التعديلات هي فرض الأحكام العرفية . وأفاد أن الذريعة هي محاربة إرهاب "حزب العمال الكردستاني"، لكنها في الحقيقة هي تكميم سيل النقد الذي يوجه إلى رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان تحديداً .
تمضي تركيا في مسار باتت فيه بلداً لا يمكن إدارته أو حكمه . وقد اعترف نائب رئيس الحكومة بولنت ارينتش في موقف نادر بأن خطاب الحكومة أفضى إلى أن يكره خمسون في المئة من الأتراك الحكومة، والخمسون في المئة الذين يؤيدونها، وقال إن خطاب الكراهية هذا يأخذ البلاد إلى حالة من الاستقطاب لا يمكن بعدها النجاح في حكم البلاد، داعياً الحكومة إلى اعتماد خطاب تصالحي مرن .
الاعتراف المفاجئ لأرينتش لا يبدل من واقع أنه لن يكون له مكان في الحياة السياسية بعد الانتخابات النيابية في السابع من حزيران / يونيو المقبل، إذ لا يسمح له النظام الداخلي في الحزب أن يترشح لولاية رابعة .
في منظر لافت قبل أيام فقط، كان مسؤول الشرطة في أنقرة يزجر أحد رجاله ويطلب منه ويجبره على إطلاق النار على المتظاهرين المحتجين على إجراءات الحكومة، فيما كان رجل الشرطة متردداً في إطلاق الغاز المسيل للدموع . تعكس هذه الحادثة التي أثارت ضجة، كيف أن الجسم البوليسي بات ينظر إلى الشعب والمتظاهرين على أنهم أعداء له، فيما الناس تمارس حقاً طبيعياً في التظاهر وإبداء الرأي، سواء أكانت مؤيدة ام معارضة .
تعتبر رزمة الأمن الجديدة التي تناقش في البرلمان كل متظاهر على أنه إرهابي، وتجعل من التنصت من جانب رجال الشرطة لمدة 48 ساعة، كما تفتيش البيوت والآليات من دون أمر قضائي، ممكناً، أي أن الشرطة سوف تتحول إلى سلطة قضائية كاملة لمدة يومين، وهذا يعني ضرب أبسط الحقوق القضائية للمواطن، ويحول الشرطة إلى سلطة غير مراقبة قضائياً .
ويرى الحقوقيون أن هذا ليس تغييرا تشريعيا، بل تغيير في النظام السياسي والقضائي يحمل دكتاتورية سميكة إلى البلاد . وقد دعت نقابة المحامين في إعلان من صفحة واحدة الناس إلى الاعتراض والنزول إلى الشارع لمنع مرور الرزمة الأمنية في البرلمان .
حتى على صعيد مفاوضات حل المشكلة الكردية، رأت الرئيسة الموازية لحزب الشعوب الديمقراطية الكردي فيغين يوكسيك داغ أن مثل هذه الرزمة لا تسرّع بالحل، بل تأخذ تركيا إلى نظام السلطنة، وتهرق المزيد من الدماء .
وقالت إن هذه الرزمة تخدم كل شيء إلا السلم الأهلي . هي رزمة لحماية أمن القصر الرئاسي وحزب العدالة والتنمية واصفة إياها بأنها "رزمة قمع وحظر وموت" .
وجاءت الصرخة الأكبر من رئيس المحكمة الدستورية هاشم كيليتش الذي قدم استقالته قبل شهر من انتهاء ولايته، لكي يترشح ربما إلى الانتخابات النيابية المقبلة .
وهاشم كيليتش وقف في المحكمة الدستورية ضد حظر الأحزاب الإسلامية في السابق، انطلاقاً من الحفاظ على المبادئ الديمقراطية . لكنه عندما وقف معترضاً في المحكمة الدستورية وبالأحكام القضائية على ما كان أردوغان يريد من تمرير أحكام سياسية وقضائية اتهمه حزب العدالة والتنمية بأنه واجهة لحزب الشعب الجمهوري المعارض، وبأن المحكمة الدستورية تشكل هي لا أحزاب المعارضة السياسية رأس المعارضة . وهذا المنطق كان يحكم كل سلوكيات حزب العدالة والتنمية . فمن معه ينال الحظوة والعطاءات، ومن يعارضه ولو كان من القضاة المميزين يصنف من أعداء النظام ومن الخونة . وهو ما انسحب أيضاً على جماعة فتح الله غولين التي لم تبق مفردة ونعتاً سيئاً إلا واستخدمه أردوغان شخصياً ضدهم ليس أصغرها صفة العصابة والحشاشين والخونة .
تدخل السلطة السياسية في شؤون السلطة القضائية من جهة، وتقليص صلاحياتها من جهة أخرى لصالح سلطة الشرطة كانت موضع اعتراض ونقد شديدين من هاشم كيليتش في البيان الذي أصدره لدى إعلان استقالته من رئاسة المحكمة الدستورية .
بالأمس تصدى نقيب المحامين لأردوغان في احتفال قضائي، واليوم يواصل كيليتش معركته من أجل استقلالية القضاء والديمقراطية .
لا يختلف اثنان على أن خطاب حزب العدالة والتنمية هو خطاب الكراهية تجاه مخالفيه . يصنف من يعارضه بشتى الصفات ليس أقلها أنه عميل للخارج، وأداة في مؤامرات لقلب النظام . ومع النظام تكاد تسير معظم وسائل الإعلام المرئية والمسموعة . عملية غسل الدماغ على نمط الإعلام في ألمانيا النازية قائمة على قدم وساق . وإذا كان حزب العدالة والتنمية يعتقد أنه بذلك يحصن قلعته السلطوية غير أن الانسداد في المسار الديمقراطي لن يكون سوى الانفجار الاجتماعي . فهذا قانون طبيعي وتاريخي لا يمكن أن تكون تركيا استثناء منه .
يؤكد كيليتش إن خطاب الكراهية لدى السلطة وما نتج عنه من استقطاب حاد يفقد تركيا أرضية الحوار الضرورية . واتهم كيليتش السلطة بأنها تستخدم القضاء أداة للانتقام، وهذا ليس دور القضاء الذي لا يمكن أن يستمر على هذا النحو، قائلاً إن التهديد الأكبر الذي يواجه تركيا هو خطاب الكراهية . فيما تركيا تحتاج إلى لاعبين يعتنقون فهماً معتدلاً .
واتهم الحكومة بأنها تعمل على إفساد القضاء، بحيث كل واحد بات يعرف ميل هذا القاضي أو ذاك، ولا يمكن الاستمرار بمثل هذا القضاء، لأن القضاء ليس قوة يمكن من خلالها للسياسي أن يمرر أهدافه .
لكن حزب العدالة والتنمية يضرب بعرض الحائط كل الضوابط القانونية . ففي السابق وقبل وصول أردوغان إلى السلطة كانت رئاسة الأركان توجه رسائل وكتباً إلى القضاة من أجل أن يتخذوا قرارات توائم أهداف المؤسسة العسكرية . ومن أشهر تلك الأوامر ما سطره نائب رئيس الأركان تشيفيك بير في العام 1998 لمنع إلغاء قرار الملاحقة بحق إحدى الصحفيات .
أما اليوم فإن رسائل وزارة العدل هي التي لا تتوقف إلى القضاة، ومنها الطلب بعدم إخلاء سراح القضاة الذين قادوا عمليات التحقيق في الفساد، قبل أن يعتقلوا في عمليات انتقام غير قانونية من جانب الحكومة بتهم المشاركة في الإعداد لانقلاب على الحكومة . كما أن العديد من عمليات الاعتقال يتم الإعلان عنها أو التمهيد لها بعناوين بارزة في الصحف الموالية لأردوغان، كما لو أنها أوامر للقضاة من جانب وسائل الإعلام .
أكثر من ذلك، فإن الإسلاميين الذين يقودون اليوم حزب العدالة والتنمية كانوا يطالبون في عهود الوصايات العسكرية بتعديل العديد من البنود التي تضمنها دستور العام 1982 الذي وضعه العسكريون، واليوم يعمل إسلاميو العدالة والتنمية بالمواد الدستورية نفسها ضد خصومهم، بل لم يعودوا متحمسين لوضع دستور جديد يعزز الحريات والديمقراطية بعدما انقلبوا على الشعارات التي وضعوها لدى وصولهم إلى السلطة، وانتهجوا مسار الاستبداد وما يتطلبه ذلك من تصفيات لمن يعترض عليهم من موظفي الدولة وفي مقدمهم القضاة .
وفي مواجهة هذا السلوك غير القانوني تحتاج تركيا وقضاتها إلى نضال شاق وجدي ويومي، من أجل إرساء قيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان، قبل أن يتحول نهج الاستقطاب إلى حرب أهلية لن يفيد حزب العدالة والتنمية حينها استبداد ولا قصور .