غزة ـ محمد حبيب
يُحيي الفلسطينيون، الإثنين الموافق 11 تشرين الثاني/نوفمبر، الذكرى التاسعة لرحيل الرئيس ياسر عرفات (أبو عمار)، بعددٍ من الفعاليات في محافظات الوطن كافة، وفي الشتات، بعد أيام قليلة على صدور التقارير الطبية والتحقيقات بشأن اغتياله، والتي أكدت أن الزعيم الفلسطينيّ اغتيل بالسم، باستخدام مادة البولونيوم المشعّ.وأكد الناطق باسم حركة "فتح" في غزة فايز أبو عيطة، أن "إحياء الذكرى التاسعة لرحيل مؤسس
الثورة الفلسطينية ياسر عرفات، تأتي لتجديد العهد بالاستمرار في الثورة على المبادئ التي تركها عرفات، وتكملة المشوار الذي بدأ به في الحفاظ على الثوابت الفلسطينية لتحقيق حلم شعبنا بإقامة الدول الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وعودة اللاجئين وفق قرارات الشرعية الدولية، ونعاهد (أبو عمار) بأن نواصل التحقيق في جريمة اغتياله البشعة، حتى نتمكن من معاقبة الفاعلين، ولن يهدأ لنا بال ولن تنام لنا عين حتى نقتص من قتلته".وأشار أبو عيطة، إلى أن ما يُميّز ذكرى عرفات هذا العام، أنها جاءت متزامنة مع التقارير الدولية التي تحدثت عن وجود نسبة مرتفعة من مادة البولونيوم المشعة في رفاته، وهو ما يؤكد ضلوع حكومة الاحتلال الإسرائيلي في ارتكاب هذه الجريمة، مشددًا على ضرورة إنهاء الانقسام الداخلي، لأنه "عار ويُشكل خطرًا على مستقبل الوطن، وتحقيق المصالحة الفلسطينية في أسرع وقت".
وشدد عضو المكتب السياسي لحركة "حماس" موسى أبو مرزوق، على أن "حركته وقفت مع الرئيس عرفات عندما قاوم الاحتلال ورفض التنازل عن القدس، وسمح للعمل المقاوم في غزة والضفة، ورفضنا تفاوضه مع الاحتلال واعترافه بالكيان الصهيوني وتوقيعه على اتفاقيات أوسلو، في الوقت الذي وقفت بعض التيارات في حركة (فتح) ضدّه، وتآمر البعض الآخر عليه, ثم بكوا عليه بعد طي صفحة المؤامرة!".
وأضاف أبو مرزوق، في صفحته على "فيسبوك"، "وقفنا بقوة خلف برنامج المقاومة وواجهنا الكيان بكل قوة، لا لإفشال ما وقّع عليه عرفات، ولكن تطبيقًا لبرنامج المقاومة وتحقيقًا لرغبات شعبنا، حيث رفضت الفصائل والقوى الفلسطينية كافة خيار التسوية السياسية، وسواء انحازت هذه الفصائل إلى خيار المقاومة بفعالية أم لا، إلا أن أوسلو كان رفضه إجماعًا وطنيًا".
واعتبر عضو اللجنة المركزية لـ"الجبهة الشعبية" كايد الغول، رحيل ياسر عرفات خسارة كبيرة بالنسبة إلى الشعب الفلسطينيّ، ووقد دفع حياته ثمنًا لعدم استجابته للمطلب الأميركي والإسرائيلي في مفاوضات كامب ديفيد، حين رفض التنازل عن حقوق الشعب الفلسطيني، فياسر عرفات حين قال يردوني طريدًا، وأنا أقول لهم شهيدًا شهيدًا، كانت بمثابة رسالة تحدي للموقف الأميركيّ، واغتياله كان رسالة إلى كل فلسطينيّ يطالب بحقوقه، بأن مصيره سيكون مصير عرفات ذاته".
وأوضح الغول، أن "إعادة الاعتبار لياسر عرفات تكمن في رفض المفاوضات التي يرعاها ويقف وراءها من قتله، وأن نعمل على مغادرة كل هذا المجرى الذي لم يؤد فقط إلى استشهاد عرفات وإنما سيؤدي إلى القضاء على حقوق الشعب الفلسطينيّ، كما يجب إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة التي كان يحرص عليها الشهيد الراحل في حياته".
واعتبر عضو المكتب السياسي لـ"الجبهة الديمقراطية" صالح زيدان، أن "ياسر عرفات لا يزال موجود بيننا، وإحياء ذكراه هو تجديد العهد له، وهو القائد التاريخي للشعب الفلسطينيّ، الذي يجب أن نحافظ على الأهداف التي استشهد من أجلها، بعد أن أفنى حياته في النضال ومن اجل حقوق الشعب الفلسطينيّ".
وأعلن رئيس اللجنة الفلسطينية المكلفة بالتحقيق في ظروف موت عرفات اللواء توفيق الطيراوي، في مؤتمر صحافي عُقد في رام الله، الجمعة الماضية، أن المعطيات التي توافرت للجنة عقب تسلمها تقارير الفريقين الروسي والسويسري، تشير إلى أن وفاة الرئيس ياسر عرفات لم تكن طبيعية بل نتيجة مادة سميّة، وأن الدلائل والمعطيات كافة تؤكد أن "أبو عمار" لم يمت بسبب المرض أو تقدم السن، ولم يمت موتًا طبيعيًا، وأن تطور الحالة المرضية للرئيس عرفات ناتج عن مادة سمية، وأن إسرائيل هي المتهم الأول والأساس في اغتيال عرفات، واللجنة ستواصل التحقيق للوصول إلى التفاصيل وعناصر القضية كافة".
وأكد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في خطاب مسجل بث خلال حفل إحياء الذكرى التاسعة لرحيل عرفات، أُقيم في قصر رام الله الثقافي، مساء الأحد، أن "الوصول إلى الحقيقة في ملابسات رحيل القائد (أبو عمار) هو هدفنا، والثبات والقوة والتصميم ذاتهم، وإننا لن نحيد عن النهج الذي وضعناه معًا، منذ البدايات الأولى لانطلاقة ثورتنا، والتي أقسمنا بأن نمضي بها إلى غاياتها في إقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشريف."
وقد رحل "أبو عمار"، وفي 11 تشرين الثاني/نوفمبر 2004، إثر مرض مفاجئ أُصيب به، لم يمهله كثيرًا، وتكشف بعدها أنه مات مسمومًا، وقد تدهورت حالته الصحية بشكل سريع أواخر تشرين الأول/أكتوبر من العام ذاته، الأمر الذي استدعى نقله على متن طائرة مروحية إلى الأردن، ومنها نقل جوًا إلى مستشفى "بيرسي العسكري" في العاصمة الفرنسية باريس، حيث توالت من هناك الأخبار عن تدهور وضعه الصحيّ، إلى أن جاء خبر وفاته الذي أثار حزن وغضب الفلسطينيين والكثيرين من دول العالم.
ويُعتبر عرفات، رمزًا لفلسطين شعبًا وقضية، وقائدًا لثورة وشعب ناضل ويناضل من أجل الحرية والكرامة، امتاز بحنكته الواسعة وإرادته وصموده أمام كل التحديات، حول الكثير من الانتكاسات إلى انتصارات سجلها التاريخ.
وولد (أبو عمار)، حسب ما عرف بتاريخ الثورة، في القدس في 4 آب/ أغسطس 1929، واسمه بالكامل "محمد ياسر" عبدالرؤوف داوود سليمان عرفات القدوة الحسيني، تلقى تعليمه في القاهرة، وشارك بصفته ضابط احتياط في الجيش المصري في التصدي للعدوان الثلاثي على مصر في 1956، وشارك ومجموعة من الوطنيين الفلسطينيين، في تأسيس حركة "التحرير الوطني الفلسطيني" (فتح) في الخمسينات، وأصبح ناطقًا رسميًا باسمها في 1968، وانتخب رئيسًا للجنة التنفيذية في "منظمة التحرير" الفلسطينية في شباط/فبراير 1969، بعد أن شغل المنصب قبل ذلك أحمد الشقيري ويحيى حموده، ودرس في كلية الهندسة في جامعة فؤاد الأول في القاهرة، وشارك منذ صباه في بعث الحركة الوطنية الفلسطينية من خلال نشاطه في صفوف اتحاد طلبة فلسطين، الذي تسلم زمام رئاسته لاحقًا.
في العام 1974، ألقى عرفات كلمة باسم الشعب الفلسطيني أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وحينها قال جملته الشهيرة "جئتكم حاملاً بندقية الثائر بيد وغصن زيتون باليد الأخرى، فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي"، وقاد خلال صيف 1982 المعركة ضد العدوان الإسرائيلي على لبنان، بصفته قائدًا عامًا لجبهة عريضة هي القيادة المشتركة لقوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وقاد معارك الصمود خلال الحصار الجهنمي الذي ضربته القوات الإسرائيلية الغازية في محيط بيروت طيلة 88 يومًا، انتهت باتفاق دولي يقضي بخروج المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، وحين سأل الصحافيون عرفات لحظة خروجه عبر البحر إلى تونس على متن سفينة يونانية عن محطته التالية، أجاب "أنا ذاهب إلى فلسطين"، وحلّ هو وقيادة وكادر "منظمة التحرير" ضيوفًا على تونس، ومن هناك بدأ استكمال خطواته الحثيثة نحو فلسطين.
وفي الأول من تشرين الأول/أكتوبر 1985، نجا ياسر عرفات بأعجوبة من غارة إسرائيلية استهدفت منطقة "حمام الشط" في تونس، أدت إلى سقوط عشرات الشهداء والجرحى من الفلسطينيين والتونسيين، ومع حلول 1987 أخذت الأمور تنفرج وتنشط على أكثر من صعيد، فبعد أن تحققت المصالحة بين القوى السياسية الفلسطينية المتخاصمة في جلسة توحيدية للمجلس الوطني الفلسطيني، أخذ عرفات يقود حروبًا على جبهات عدة، فكان يدعم الصمود الأسطوري لمخيمات الفلسطينيين في لبنان، ويوجه انتفاضة الحجارة التي اندلعت في فلسطين ضد الاحتلال الاسرائيلي وبطشه عام 1987، ويخوض المعارك السياسية على المستوى الدولي من أجل تعزيز الاعتراف بقضية الفلسطينيين وعدالة تطلعاتهم، فبعد إعلان استقلال فلسطين في الجزائر في الخامس عشر من تشرين الثاني/نوفمبر عام 1988، أطلق في الثالث عشر والرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر في العام ذاته في الجمعية العامة للأمم المتحدة مبادرة السلام الفلسطينية لتحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط، حيث انتقلت الجمعية العامة وقتها إلى جنيف بسبب رفض الولايات المتحدة منحه تأشيرة سفر إلى نيويورك، وأسست هذه المبادرة لقرار الإدارة الأميركية برئاسة رونالد ريغان في الـ16 من الشهر ذاته، والقاضي بالشروع في إجراء حوار مع منظمه التحرير الفلسطينية في تونس اعتبارا من 30 آذار/مارس 1989.
وفي الثالث عشر من أيلول/سبتمبر من العام 1993 وقع عرفات ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل اسحق رابيين اتفاق إعلان المبادئ "اوسلو" بين "منظمة التحرير" الفلسطينية وحكومة إسرائيل، في البيت الأبيض، حيث عاد ياسر عرفات بموجبه على رأس كادر "منظمة التحرير" إلى فلسطين، واضعًا بذلك الخطوة الأولى في مسيرة تحقيق الحلم الفلسطيني في العودة والاستقلال، وفي العشرين من كانون الثاني/يناير 1996 انتخب ياسر عرفات رئيسًا للسلطة الوطنية الفلسطينية في انتخابات عامة، وبدأت منذ ذلك الوقت مسيرة بناء أسس الدولة الفلسطينية، وبعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في 2000 نتيجة التعنت الإسرائيلي وحرص عرفات على عدم التفريط في الحقوق الفلسطينية والمساس بثوابتها، اندلعت انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من أيلول/سبتمبر 2000، وحاصرت القوات الإسرائيلية عرفات في مقره في رام الله، بذريعة اتهامه بقيادة الانتفاضة، واجتاحت مدنًا عدة في عملية سميت بـ "السور الواقي"، وأبقت الحصار مطبقًا عليه في حيز ضيق يفتقر للشروط الدنيا للحياة الآدمية.