دبي ـ سعيد الهيري
لم يعد يليق بالدراما اللبنانية أن نتحدث عنها وكأنها جديدة أو باعتبارها تلك التي تحبو بخطواتها الأولى على الشاشة . ففي الأعوام الأخيرة أثبتت أنها قادرة على إبهار الجمهور واستعادة دورها في العالم العربي، حتى في عز المنافسة القوية على الجبهتين "المصرية" و"التركية"، وتراجع كم الأعمال السورية .
جريئة ومتطورة، تماشي الأجيال وتبرع في الانخراط وسط المجتمعات العربية كافة . هكذا هي الدراما اللبنانية اليوم، التي تستعيد حضورها بعدما اشتهرت في الماضي، زمن الستينات والسبعينات بتقديم دراما عربية ناطقة بالفصحى أحياناً، وبدوية الطابع أحياناً أخرى . وقتها انشغلت بتقديم فن راق ومسلسلات اجتماعية تميل أكثر إلى الرومانسية، بحضور أشهر نجومها محمود سعيد وعبد المجيد مجذوب وسميرة توفيق وهند أبي اللمع ونهى الخطيب سعادة وفيليب عقيقي وإيلي صنيفر وابراهيم مرعشلي وغيرهم . . متخطية الحدود اللبنانية باتجاه مختلف بلاد الشام ودول الخليج .
"روبي"، "جذور"، "عشق النساء"، "وأشرقت الشمس" . . نماذج يمكن الاتكاء عليها لإثبات مدى نجاح هذه الدراما، ولعل الوقوف عند "وأشرقت الشمس" ضروري، بقدر ضرورة عرضه على أكثر من قناة عربية ليتمكن من الانتشار أبعد من حدود هواء محطة "إل بي سي" التي عرضته قبل نحو عام تقريباً - فينافس بحق باقي المسلسلات العربية وفي عقر دارها .
المسلسل كتبته منى طايع وأخرجه شارل شلالا، ويمكن اعتباره ملحمة تحكي زمن الاستعمار العثماني للبنان ونشأة المقاومة من أجل الاستقلال . والمؤسف ألا يكون قد تم عرضه على أكثر من قناة كما درجت العادة خلال السنوات الأخيرة بعرض المسلسلات على محطات لبنانية ومصرية وخليجية في آن معاً، إلا أن القصة تصلح للعرض في كل الأوقات، والعمل شبه متكامل يستحق المشاهدة أكثر من مرة .
من هم أبطال المسلسل؟ يمكنك القول إن كل من عمل كي تشرق شمس هذا العمل فتستعيد الدراما اللبنانية عافيتها وتتقدم إلى الصفوف الأولى بكل ثقة، هو بطل "وأشرقت الشمس"، بدءاً من الكاتبة المبدعة منى طايع التي حبكت السيناريو والحوار وكل الأحداث بتفاصيلها بشكل رائع، وصولاً إلى المخرج شارل شلالا الذي ابتعد عن الحشو في المشاهد وقد أثبت مع الكاتبة أن المسلسلات الطويلة (أكثر من 40 حلقة) يمكنها أن تكون جيدة وممتعة بلا مط وتطويل لكسب عدد حلقات أكثر دون أن تستدعي الأحداث ذلك . ولاشك أن الإنتاج الذي تعاونت فيه أكثر من جهة كان سخياً فأعطى العمل حقه خصوصاً لناحية اختيار الأماكن والأزياء والديكور فشعر المشاهد بأنه يعيش فعلياً في زمن الاحتلال العثماني وحقبة مهمة من تاريخ لبنان وأجواء الثورة والاستقلال (1890 1918) . كذلك لعب اختيار مواقع التصوير خارج الاستديوهات المغلقة و"العلب الجاهزة"، حيث الطبيعة الخضراء، وعمل الفلاحين في الحقول ولقاء الأحبة عند الطاحونة والنهر، والبيوت المبنية على الطراز الجبلي القديم . . وتم تصوير المشاهد الأساسيّة في أحد القصور الفخمة في منطقة الهيكليّة في طرابلس وشوارع منطقة البترون (شمال لبنان) التي مازالت تحافظ على طابعها العتيق .
المساهمون في "إشراقة" هذا العمل هم مجموعة الممثلين الذين برع كل منهم في أداء دوره على أكمل وجه: غسان صليبا (الشيخ خليل - البطل) الآتي من عالم الغناء والمسرح إلى الدراما لأول مرة، فبدا متآلفاً مع الكاميرا غير متصنع أو متكلف . جوزيف بو نصار (الشيخ عبد الله) المتأرجح بين الجبروت وكبرياء "المشايخ" فيمارس تسلطه على الجميع، وبين حبه (لزوجته في البداية ومن ثم لابنته) وعاطفته التي يحرص على إخفائها لأنها دليل ضعف وانكسار لا يليق بالشيوخ، فيضطر إلى تغيير بعض قراراته بطريقة غير مباشرة . هذا الصراع في المشاعر ينتقل إلى ابنه (الشيخ طلال) يوسف الخال الذي أجاد بحرفية اللعب على هذه الأوتار والتناقضات والتي استدعت منه تقديم ملامح القسوة واللين، الجبروت والحب في مشهد واحد .
إلسي فرنيني النجمة المخضرمة قدمت أجمل وأقوى أدوارها على الشاشة (الست منيرة صاحبة الخمارة)، كما عادت رولى حمادة لتتألق في الدراما بدور ياسمين، وهو دور استلزم الخنوع أحياناً والكبرياء والعناد أحياناً أخرى . نهلا عقل داوود (الشيخة ناهية) تفوقت في دور الشر فجعلت المشاهد يكره الشخصية ويرى في ملامحها امرأة مجبولة بالحقد، وكعادتها تجيد وئام اللحام منح كل أدوارها بعضاً من روحها، كما تميز فادي متري بدور رستم باشا وكرستينا صوايا بدور الأميرة ثريا . حتى الوجوه الشابة تألقت في هذا العمل، مثل إيميه صياح التي انتقلت من تقديم البرامج إلى أولى خطواتها في التمثيل بدور بطولة قوي (جلنار) أثبتت من خلاله أنها تملك موهبة حقيقية، والشاب رودريغ سليمان (الفلاح والطالب المقاوم شاهين)، وتاتيانا مرعب (ثريا ابنة الشيخ عبد الله) وغيرهم . .
لولا الحبكة التي نسجت بها منى طايع كل خيوط القصة بإتقان شديد، وانساب تسلسل الأحداث بتتابع منطقي، مع قفزات بالزمن كي لا يطول المسلسل أكثر مما يجب، ولولا حسن اختيار الشخصيات كل في موقعه ووفق الأداء المناسب، (وهنا تبرز براعة المخرج وامتلاكه أدواته) لما حقق العمل كل هذا النجاح واستحق لقب الأفضل عربياً في ذلك الوقت، فللكاتبة أكثر من مسلسل ناجح، ولها أيضاً "عشق النساء" الذي عرض مؤخرا، إلا أن "وأشرقت الشمس" قفز بها إلى الأعلى، وحمل كل مؤهلات التفوق، لأنه جاء مكتمل العناصر وإن رافقته بعض الملاحظات الهامشية التي لا تستحق أن نتوقف عندها . وسواء مع منى طايع أو سواها من الكتاب اللبنانيين، فإن الدراما اللبنانية تعيش اليوم فرحة الانتصار على الظروف الصعبة التي كبلتها لسنوات طويلة، وننتظر منها المزيد من الإبداع خصوصاً أنها تضخ أعمالاً باستمرار وخارج إطار العروض الموسمية والمنافسة الرمضانية، ونتمنى أن تفك حصار العروض على القنوات اللبنانية، فهي بلا شك أجمل وأهم من الدراما التركية التي تغزو القنوات العربية .