موجو جاليري

ثلاث حكايات تسرد رواية الإنسان في الزمان والمكان، وترصد أحلامه وتطلعاته إلى الأبهى وسط خراب وحطام لا متناه، يمكن أن نعرف له بدايات، ولكننا نجهل نهاياته. هذا ما تعرضه "موجو جاليري" في الجزء الثالث من سلسلة معارض "العبور"، الذي يجمع بين الفنانين التشكيليين من العالم العربي وأفريقيا، ويستمر حتى الشهر المقبل.

يشارك الفنان تيسير بركات بخمس لوحات من الحجم الكبير، تحاكي الواقع العربي عموماً، والفلسطيني خصوصا، وتنطوي على رموز ودلالات تذهب بعيداً في سيرة المكان التاريخية، وهي ليست محاولة توثيقية بقدر ما هي محاولة لضبط لحظات معينة في تاريخ المكان ومدى فاعلية الإنسان.

ويقول بركات إن اللوحات الخمس هي جزء من معرض شخصي، يعمل عليه بعنوان "أصوات من بعد"، تذهب إلى أماكن موغلة بالتاريخ وغنية بموروثها الحضاري، وحافلة بانتصاراتها وانكساراتها، بإشراقاتها الباهرة على الإنسانية، وعتماتها القاسية على النفس. هي اقتناص لحظات تستدعي كل جماليات وفلسفات المنطقة، وإعادة بث الروح فيها بمفاهيم فنية، لا تنتمي إلى أية مدرسة تشكيلية، بقدر ما تنتمي إلى الفن وجمالياته المطلقة، حسب تعبيره.

يقدم بركات لوحة "في الظلال" أخيلة تتراءى من وراء حجب كثيفة، مقطعة إلى مربعات، يحيل بعضها إلى الحروب وما تلحقه بالمكان وروح الإنسان من دمار، وبعضها الآخر يقدم رُقماً طينية، أبجديات، كلمات تروي حكايات متعددة الدلالات، بالإضافة إلى فارس يمتطي صهوة جواد يخب في فضاء سديمي، وفي خلفية المشهد هناك شاهد يراقب المشهد بصمت، لعله الفلسطيني أو الفنان نفسه.

وفي لوحة "محادثة ليلية" يقدم بركات مشهداً وجدانياً ينغرس عميقاً في الوعي، حيث تقف الوجوه قريبة من بعضها بإئتلاف مدهش، رغم أنها مؤطرة في قوالب تجعلها تبدو وكأنها أسيرة اللحظة، إلا أن بعضها ينتمي إلى الماضي السحيق. وهكذا في "الرقص فوق الركام" التي تحاكي إصرار غزة على اجتراح الحياة، حيث يخرج الأطفال والنساء، والشيوخ والشباب من تحت الخراب، وكأنه البعث الجديد للإنسان الفلسطيني، ليسجل حضوره العميق في المكان.

أما الفنان إسماعيل الرفاعي فيقدم ستة بورتريهات، هي جزء أو امتداد لتجربته الرماديات التي بدأها عام 2011، وانتقل فيها من تجربة الأزرق الطاغي على تعددية الألوان، إلى اللون الأحادي، وهو انتقال شكل منعطفاً في تجربته الفنية، حيث انتقل العمل الفني من المشهد المرئي، إلى اللامرئي، كما هو الحال في معظم الوجوه التي قدمها في المعرض.

ويقول الرفاعي إنها مجرد وجوه، هي ليست لأحد بعينه، ولكنها يمكن أن تكون لأشخاص تعرفهم أو يعرفهم المتلقي. كما أنها ليست وجوهاً ذكورية أو أنثوية، وإنما هي محاولة تعبيرية تستحضر النوع الإنساني. معتبرا أن اللون الرمادي الأحادي يسمح بالتركيز على الجوانب الروحية، وتكثيف اللحظة الشعورية بصورة موجزة، بمعنى أن الشخص يمكن أن يغلق عينيه، ولكنه يبصر بدقة كل ما يحدث.

هي العلاقة بين الداخل والخارج، ولكنها تبدأ من الذات لصياغة عالم بديل على المستوى الجمالي، وينطوي على رسالة أخلاقية قد تدين كا ما يحدث من خراب وقتل يومي.

من جهته يشارك الفنان ميشيك ماسامفو المقيم في زيمبابوي بخمس لوحات تعكس مجموعة من التأثيرات المُذهلة، التي تنتمي إلى المدارس الفنية التعبيرية المعاصرة، في سعيها الدؤوب لإلتقاط ما يصعب حدوثه، أو لتجسيد ما لا يمكن تخيّله بمشاهد متداخلة ومعقّدة نشأت أثناء الصراعات لتصوّر لحظات التحوّل.

يتوصّل ماسامفو إلى نقطة توازن خاصة بين التفاصيل الشاعرية المعبّرة وبين الإيجاز المطلق للتعامل مع الموقف، وكأنما نقف أمام صرخة صامتة. لقد دمج ما بين الرجل والمرأة في كيان واحد، ورسم العديد من الرؤوس لتُشكّل جسداً واحداً، كما دعا إلى أشكال متنوّعة تذكّرنا بالأقنعة الأفريقية. إن أكثر ما يميّز إبداع ماسامفو هو اللون القوي النابض والمعبّر، وكأنما يحاول أن يزّف إلينا بشرى أمل من المستقبل بعيداً عن مظاهر الدمار. إنها ألوان الحرية التي طال انتظارها.