القاهرة - سعيد فرماوي
تتجلى عدالة الإسلام ورحمته وإنسانيته في جملة التشريعات التي تنظم العلاقة بين المسلمين وغيرهم من أصحاب العقائد الأخرى، حيث رسمت شريعة الإسلام شكلاً مثالياً للعلاقة بين الفريقين لكي تحقق التعايش السلمي والتعاون والمصالح الحياتية، بعيداً عن اختلاف أو تنوع العقائد والديانات .
ولا غرابة في ذلك فالذي رسم شكل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين هو الله سبحانه وتعالى- المشرع الأول للمسلمين - فهو سبحانه وتعالى القائل في كتابه العزيز: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم، أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين" . فالآية الكريمة تجعل العلاقة بين المسلمين وغيرهم، قائمة على أمر أعظم من العدل - الذي هو إعطاء كل ذي حق حقه- حيث ترتقي هذه العلاقة إلى مرحلة الإحسان - وهو الزيادة على الحق فضلاً - ولقد قدمت الآية لفظ البر على لفظ القسط - وهو العدل - وقد سمى الإسلام غير المسلمين داخل مجتمعه (أهل الذمة) أي أهل العهد والضمان والأمان، لأن لهم عهد الله، وضمان رسوله، وأمان جماعة المسلمين على أن يعيشوا في حماية الإسلام وتحت راية المجتمع الإسلامي آمنين مطمئنين .
داخل المجتمع الإسلامي كفلت الشريعة الإسلامية- كما يؤكد أستاذ الشريعة الإسلامية وعضو مجمع البحوث في الأزهر د . محمد الشحات الجندي - جميع حقوق غير المسلمين مثلهم مثل المسلمين تماماً، ولخص فقهاء الإسلام هذه الحقوق في قاعدة ذهبية هي:(لهم ما لنا، وعليهم ما علينا)، أي: لهم مالنا من الحقوق والحريات، وعليهم بعض الذي علينا من الواجبات وقد فصل الفقهاء هذه القاعدة في جملة من الحقوق تشمل:
- حماية غير المسلم من العدوان الخارجي: حيث يجب على المجتمع الإسلامي أن يوفر كل وسائل الحماية لكل من رضي العيش بداخله، وهذا هو ابن تيمية يترجم هذا المبدأ عملياً ويقف بقوة في وجه التتار عندما أرادوا إطلاق سراح أسرى المسلمين فقط، وإبقاء النصارى بالأسر فقال: "إنا لا نرضى إلا بافتكاك جميع الأسرى من المسلمين وغيرهم، لأنهم أهل ذمتنا، ولا ندع أسيراً لا من أهل الذمة، ولا من أهل الملة" .
- توفير الحماية الداخلية لغير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي، وهذه الحماية متنوعة وتشتمل على حقوق ومظاهر تكريم كثيرة، منها: حماية أرواحهم ودمائهم، حيث جرمت الشريعة الإسلامية إلحاق أي أذى أو ظلم بأي إنسان مواطن أو زائر غير مسلم هو في ذمة المسلمين وعهدهم من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة" .
أيضاً، واجب المجتمع الإسلامي حماية غير المسلمين من أي أذى يمس أعراضهم أو ينتقص من كرامتهم، فلا يجوز في الإسلام إلحاق أي أذى بالمسلم أو غير المسلم من شتم أو قذف أو تجريح أو حتى غيبة . . وأموال غير المسلمين في نظر الشريعة الإسلامية لا تقل حرمة عن دمائهم وأعراضهم، ومن بين نصوص المعاهدة التي وقعها رسول صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران قوله: "ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير" . . وسجل التاريخ الإسلامي صفحات مشرقة من حماية حكام المسلمين لأموال وممتلكات غير المسلمين . والواقع التطبيقي لأحكام الشريعة يظهر بوضوح هذه الحماية لكل ممتلكات غير المسلمين، فلهم الحق في دخول كل المعاملات الاقتصادية وممارسة كل الصفقات إلى غير ذلك من الحرية الاقتصادية، وحق التملك .
ومن مظاهر التسامح والعدل والرحمة التي جاءت بها شريعة الإسلام - كما يوضح د . الجندي - أن الدولة الإسلامية مطالبة بكفالة الفقراء غير المسلمين وتوفير مقومات العيش الكريم لهم . . كما أن المجتمع الإسلامي مطالب بكفالة المسلم وغير المسلم وتوفير كل الاحتياجات الضرورية وأحياناً التحسينية له، خاصة عند العجز عن الكسب والعمل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع، ومسؤول عن رعيته . . ." وشواهد التطبيق العملي للمسلمين في ساحة العطاء الإنساني مع غير المسلمين كثيرة ولا تحصى، وهي شاهدة على عظمة شريعة الإسلام وعدالتها، حيث جعلت أهل الذمة من أولى الناس مع المسلمين بالبر والصلة، وكانت ضمانات المجتمع المسلم واضحة ضد الفقر والعجز والشيخوخة لكل فئات المجتمع، حيث لا تفريق بين المسلم وغير المسلم .
وحريات غير المسلمين داخل المجتمع الإسلامي مصونة ومكفولة، وفي مقدمة هذه الحريات حرية إقامة شعائرهم وحماية دور عباداتهم، حيث أقر الإسلام حرية الاعتقاد لكل الناس، فلا إكراه لأحد على دخول الإسلام، وإن كان يدعوهم إليه، فالدعوة إلى دخول الإسلام لا تعني أبدا إكراه أحد على ترك دينه واعتناق الإسلام، ومنهج الدعوة إلى الإسلام بين المسلمين وغير المسلمين حدده الخالق سبحانه وتعالى في قوله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن" وقوله عز وجل: "لا إكراه في الدين"، والقاعدة في ذلك هي قول الإمام علي كرم الله وجهه: "تتركهم وما يدينون"، والشواهد التاريخية على تطبيق هذه الحرية على أرض الواقع كثيرة من زمن النبي إلى عصرنا الحاضر .