معرض الشارقة للكتاب 2014

تعتبر الكاتبة منصورة عز الدين من الروائيين العرب الذين يمتلكون صوتهم الخاص، ويسعون باستمرار إلى تطويره وتأكيد تميزه، من خلال مشروع للكتابة مسكون بهموم الإبداع، ظهر ذلك في روايتها "متاهة مريم" ثم روايتها "وراء الفردوس" التي وصلت إلى القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية ،2010 وها هي تؤكد ذلك في روايتها الجديدة "جبل الزمرد" التي فازت بجائزة معرض الشارقة للكتاب 2014 .
تعي الكاتبة جيدا المهمة التي تقدم عليها في "جبل الزمرد" وهي المحاورة الفنية والفكرية لكتاب ألف ليلة وليلة، ومد خيط التناص لأقصاها سعياً لاجتراح تقنيات فنية جديدة تمزج بين الغرائبي والواقعي، وتستعير من ذلك النص التاريخي الخالد بعض أدواته من دون أن تسقط في تقليده، وقد نجحت عز الدين في هذه المهمة بجدارة، وخرجت بنص متميز .
تتأسس الرواية على بحث امرأة تسمى بستان البحر عن الصيغة الصحيحة لحكاية "زمردة" أميرةِ جبل قاف وابنةِ ملكه التي عاشت فيه منذ آلاف السنين، وتسببت في إصابته بالزلزلة وتهدمه وتشتت من نجا من سكانه، وتعود أصول بستان البحر إلى أحد كهنة جبل قاف الذين كانوا أحياء عندما حدثت الزلزلة وفروا على رأس من فر من سكانه، وقد أقام جدها ذلك هو وطائفة من الناجين على قمة جبل "آلموت" في إيران وهناك خبأ الرقوق التي تحمل شذرات من حكاية "زمردة"، وقد حرص والد بستان البحر، وهو آخر العارفين بقصة جبل قاف، على تعليمها أسرار قومه، ونقل إليها معارفه ومهاراته في السحر، وحثها على البحث عن الصيغة الحقيقية لحكاية زمردة التي شوهها الرواة عبر العصور، وأضافوا إليها ما ليس منها، وأسقطوها من حكايات ألف ليلة وليلة، التي كانت تروى ضمنها، وذلك بسبب اللعنة التي صاحبت تلك الحكاية والتي كانت تصيب كل من يرويها .
يستولي على بستان البحر اعتقاد بأنها منذورة لترميم تلك الحكاية وإرجاعها إلى كتاب ألف ليلة وليلة، لأن في ترميمها خلاصاً لزمردة من رماد احتراقها، وعودة لجبل قاف "جبل الزمرد" إلى حياته وازدهاره كما كان، وتجد في نبوءات الكهنة المكتوبة في آثارهم أن وسيطها إلى استعادة الحكاية الحقيقية سيكون فتاة مصرية أضاعت في صغرها فصاً من الزمرد من خاتم أمها الجميلة التي تلقب بأنثى المرايا، ولذلك تستقر بستان البحر في القاهرة، وقد جمعت كل المصادر التي تذكر جانباً من حكاية زمردة، كما جمعت كل طبعات كتاب الليالي، وبعد بحث طويل وانتظار تعثر على تلك الفتاة - واسمها هدير- بمساعدة شاب إيراني تاجر مجوهرات، هو الآخر من سلالة قوم جبل قاف، ومن الذين يبحثون عن حقيقة زمردة، وتوهم بستان البحر هدير بأنها تحقق في قصص ألف ليلة وليلة، وتقنعها بأن تعمل معها بوظيفة موثقة وبراتب مغر .
بالتناوب مع حكاية بستان البحر وهدير تروي الكاتبة حكاية قوم جبل قاف واللعنة التي أصابتهم بسبب الأميرة الجميلة "زمردة" ابنة ياقوت ملك الجبل قاف، وأمها نورسين ابنة عالم اختطفها الملك من بلدتها، وطار بها على ظهر العنقاء إلى جبله الذي يبعد آلاف السنين عن مدينتها، والمحروس بحية عملاقة تمنع الداخلين إليه والخارجين منه، وتختفي نورسين بعد ميلاد زمردة، ولا يعثر لها على أثر، وتتعلم زمردة كل شيء على يد معلمين جلبهم أبوها، ويصل إلى الجبل بلوقيا بمعجزة، فلم يستطع قبله أحد أن يصل إلى الجبل، ويتعرف إلى ابنة الملك الباحثة عن أمها، وتكون بينهما قصة حب، ويعطيها سراً يمكّنها من التخلص من الحية الحارسة للجبل وقد عرفت أنها قتلت أمها .
مسيرة زمردة مع بلوقيا كانت مراقبة من طرف مروج حفيدة الكاهن التي تعلمت من الأسرار والحكمة من أمها، وأوصلها توقها للمعرفة عبر سرداب خفي إلى ذلك الطيف العالم بأسرار قاف، وقد أخبرها بالزلزلة التي ستحيق بالجبل بسبب الأميرة التي ستقتل الحية الحارسة للجبل، وكانت مروج تكتب وقائع حياة زمردة أولا بأول .
استطاعت بستان بعد أن أنِست بها هدير أن تقنعها بمساعدة كريم بالخضوع لجلسة أسرار تستخدم فيها بستان البحر معارفها السحرية لتجعل هدير ترتقي عبر الحلم إلى حياة جبل "قاف" وتستعرض حياة الأميرة وأهل الجبل، والوقائع الأخيرة التي سببت الزلزال العظيم الذي شتت شملهم، ورأت كيف أن مروج لما رأت زمردة تقتل الحية، أيقنت أنه ينبغي التخلص من زمردة قبل أن تحيق بأهل الجبل الزلزلة، فسلمت الأوراق التي فيها حياتها إلى الكهنة، ولما اطلعوا على ما فيها من كلام فاضح عن زمردة وعلاقتها بلوقيا، هموا بقتل مروج قناعة منهم أن ذلك افتراء عظيم على أميرتهم الجميلة الطاهرة، وأثناء محاكمتها بدأت علائم الزلزلة تظهر، فاستخدمت مروج أسرارها وأحرقت الأميرة، لعل ذلك يوقف الزلزلة، لكنّ الندم أصابها فقتلت نفسها، وبدأ الجبل يتساقط، فمات من مات وفر من استطاع النجاة .
بتلك النهاية استطاعت بستان البحر أن ترمم الحكاية وتستعيدها على حقيقتها، ولم تنته الجلسة حتى كانت الحكاية قد أخذت مكانها بين صفحات كتاب ألف ليلة وليلة في جميع طبعاته التي بحوزة بستان البحر .
الملاحظة الأولى التي تتبادر إلى الذهن عند قراءة هذه الرواية هي أننا لسنا أمام رواية أدبية عادية تقدم للقارئ حكاية مسترسلة متصاعدة تتآزر عناصرها لتأخذ القارئ نحو النهاية، بل نحن أمام عالم من الحكايات التي تستقل كل منها بذاتها، وإن كانت ترتبط بها بسبب ظاهر أو خفي، مما يحتم علينا القول بأننا أمام محاولة في التفلسف تتوسل بقالب الرواية، حيث إن القائد المركزي لعمل عز الدين ليس الحكاية، بل هو فرضية كون الحَكْيِ (القص) حياةً وتحقّقاً لذات الفرد بما هي جوهره الإنساني، فلا معنى لوجود الإنسان من دون الحكاية، التي هي في التأويل النهائي العلم والمعرفة، أي الحقيقة مدسوسة في قالب فني شفّاف، لذلك فمحاولة ترميم حكاية زمردة، ما هي إلا محاولة لفهم الحقيقة، وامتلاكها، تقول الكاتبة: "ذكرت النبوءات المكتوبة على هيئة ألغاز وأشعار غامضة أن الكاهنة المنتظرة ستبعث زمردة من رماد احتراقها، عبر تنقية حكايتها مما أصابها من تحريف، وإعادتها إلى متن "ألف ليلة وليلة"، ولحظتها سوف يتجسد جبل قاف من جديد، وتبطل لعنته فيعود إليه أهله بعد قرون من التيه"، ومصداقا لهذه النبوءة، فقد انتهت الرواية بمجرد تحقق مطلب عودة حكاية زمردة إلى متن ألف ليلة وليلة .
يعتبر حضور حكاية "ألف ليلة وليلة" في الرواية تأكيدا على ذلك الملمح الفلسفي للحكاية الذي تسعى الرواية إلى إثباته، فالحكاية كانت تميمة شهرزاد ضد الموت، وبها امتلكت الحياة ودفعت الموت عنها وعن بنات جنسها، وأصبحت الحكاية أيقونة المرأة وعنوان وجودها ومعيار تحقق كينونتها، وقد جعلت عز الدين الشخصيات الرئيسية في الرواية نساء، وكانت كل امرأة تبحث عن تمام حكاية ستؤدي إلى خلاصها، وانعتاقها من إسار عالمها، تماماً مثلما كانت الحكاية خلاص شهرزاد، فنورسين تريد أن طريقا للخلاص من أسرها الذي وضعها فيه الملك ياقوت عندما اختطفها من بلدتها وطار بها على ظهر العنقاء إلى جبل الزمرد المحروس الذي لا يخرج منه أحد ولا يدخله، وسيكون ذلك البحث سبباً في اختفائها، وابنتها زمردة تبحث عنها وتريد أن تجد وسيلة لاستعادتها، لذلك كان علاقتها بلوقيا وسيلة لامتلاك جانب من المعرفة استخدمته لقتل الحية العظيمة الحارسة للجبل، ومروج تبحث عن حقيقة النبوءة التي تتحدث عن انفجار مدمر للجبل ستتسبب فيه ابنة الملك، لكنهن يتجاوزن حد البحث عن المعرفة واستكمال الحكاية إلى إرادة استخدام تلك المعرفة في تغيير قوانين الكون، وهنا يكون بحثهن مدمراً لهن كلهن، فينتهين نهايات مأساوية، بينما تحقق حلم بستان البحر فاستكملت الحكاية من دون انعاكسات مأساوية، وذلك لأنها لم ترد أكثر من ترميم الحكاية، ولم تسع إلى التحكم في قوانين الكون، هل معنى ذلك أن وظيفة المرأة هي وظيفة معرفية جمالية (الحكي معرفة وفن)؟
لن يجد القارئ العادي ما يشوقه لقراءة الرواية حتى النهاية، فالأحداث لا تسير في شكل تصاعدي، بل تتوزع أفقياً في شكل حكايات متوازية، وذلك يشتت ذهن القارئ ويصيبه بالملل، فهل يركز على حكاية بستان البحر أو هدير أو نورسين أو زمردة بلوقيا أو العملاق أو مروج، وأين هو الخيط الذي يربط كل ذلك؟، قد نقبل في مستوى التحليل الفلسفي أن هناك ترابطاً دلالياً بين مجموع تلك القصص، لكنّ القارئ العادي ينتظر من الكاتب "حكاية مترابطة" وأحداثاً منطقية يسلم بعضها إلى بعض في وتيرة متصاعدة حتى النهاية، فالرواية فن الحدث قبل أن تكون فن الفكرة، وهي انتقال من حدث إلى دلالة وليس العكس، وكثيراً ما تقع الرواية في معضلة عندما يصنع الكاتب في ذهنه فكرة فلسفية ويجلس ليفصل لها قالباً حكائياً على مقاسها، لأن تدخل المنطق سيفسد الحكاية، ويقلم أجزاءها ويعيد تفصيلها على مقاسات الأفكار التي يحملها المؤلف في ذهنه، فتبدو مشتتة مبعثرة، والعبرة في الرواية ليس ما تقدمه من أفكار فلسفية منطقية، لكنها في المنظور النهائي الذي يقربنا من فهم ذواتنا، وتحقيق إنسانيتنا التي هي في جوهرها انحياز إلى الخير وبعد عن الشر .
من المؤشرات البينة الدلالة على أسبقية الرؤية الفلسفية على الحكاية في هذه الرواية وضع شخصية "هدير"، فقد بدت "سلبية" بشكل كامل، فهي لا تثير أية مشاعر لدى القارئ، لا إيجابية ولا سلبية، وسوف يخرج كل من قرأ الرواية بموقف محايد منها، وهذا يعني أنها لم تأخذ بعداً إنسانياً يثير الحب أو الكراهية أو الشفقة أو التجاذب بين مشاعر متعددة، وإنما ظلت تمثيلاً لفكرة "الوسيط" الذي هو أداة لاختراق العوالم، آية ذلك أن الرواية أغفلت ذكرها بعد أن خضعت لجلسة التجلي التي سترحل فيها بتأثير من تعويذات بستان البحر إلى عالم زمردة وتتكشف لها خلال الرحلة تفاصيل حياة تلك الأميرة، فقد غابت هدير تماما كأنها كانت مجرد محطة معراج لبستان البحر إلى الحقيقة، وهذه الهيئة التي بدت بها هدير لم تكن متوقعة، فكل المؤشرات تدل على أنها بطلة رئيسية في القصة، وهي الشخصية البشرية الوحيدة المتحققة في الرواية إذا ما استثنينا الشخصيات الثانوية مثل كريم والجدة شيرويت، واستثنينا بستان البحر التي تمتلك قدرات سحرية فوق قدرات البشر، وهذا الوجود البشري الخالص بضعفه وقواه المحدودة هو في القصص الخرافية والقصص ذات الأبعاد الفنتازية موضع للتعاطف الدائم من طرف القارئ الذي يرى فيه ضعفه الوجودي، ويتمنى أن يراه ينتصر في صراعه مع القوى الخارقة، وقد كانت سلبية هدير في الرواية محبِطة من هذه الناحية، لأنها لم تدخل في صراع مع تلك القوى، وقد كانت مؤهلة لذلك منذ صغرها، لكنّ تفكير الكاتبة كان منصباً على شيء آخر، لذلك أغفلت هذا الجانب .
لقد قدمت منصورة عز الدين طرحاً فلسفياً محكماً حول موضوع الحكاية والإنسان أو الحكاية والمرأة على الأصح، لكنها حرمت قارئها متعة الحكاية .