أبوظبي - صوت الإمارات
كرس "مهرجان أبوظبي" موقعه كحدث ثقافي شامل طوال دوراته الأربع عشرة، ليجمع تحت مظلة واحدة التعابير الفنية الإنسانية كلها، إضافة إلى التبادل الفكري والتأسيس التعليمي، ليس في مدينة أبوظبي وحدها، بل وفي مدن إماراتية أخرى، إلى جانب رعاية فعاليات ثقافية في مدن عالمية، ودعم فنانين هنا وهناك، والوقوف خلف مشاريع فنية خلاقة، ليكون بذلك منصة عالمية للتبادل الحضاري.
لا يمكن إنكار الطابع المؤسسي لعمل المهرجان، رغم أنه يدار من قبل "مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون" المستقلة وغير الربحية، ومواكبته لقضايا الساعة والحاجات الملحة للعودة إلى العمق الإنساني، فقد اختار المهرجان هذا العام شعار "الثقافة والتسامح" في وقت تتجدد فيه أساليب العنف والعنصرية والإقصاء، ليس في ساحات المعارك وحدها، بل في عقر دار الحريات والديمقراطية أيضاً.
في لقاء خاص بـ "الاتحاد الثقافي"، فتحت سعادة هدى إبراهيم الخميس، مؤسس المجموعة والمدير الفني للمهرجان، قلبها لتتحدث عن رؤيتها للمهرجان الذي بدأ صغيراً بحفلات موسيقى كلاسيكية، وكبر ليسع لكل أشكال الفنون، رغم التحديات التي تراها في الحفاظ على التجديد والإبهار، وتقول: "دائماً ما نخطط لثلاث سنوات قادمة على الأقل، وكل سنة لا بد أن نفكر كيف نحافظ على الفكر المتجدد والمبدع، فهذا مهرجان الفكر والفنون بكل مدارسها، وهو مهرجان المدينة لأنه يعني أهلها. وفي كل سنة لديَّ تحدٍّ للإبقاء على روح الشغف فيه، حتى يشعر كل شخص في المدينة أن المهرجان يعنيه، ويحرص على حضور البرامج سواء أوبرا أو موسيقي كلاسيكية أو موسيقي تقليدية عربية، أوالفنون التشكلية.. يعني لي أن أخلق هذا الرابط مع الناس لينتظروه، لنوصل إليهم الشغف والإبقاء على الشعلة متقدة عند وضع برنامج المهرجان أحاول أن أقدم للناس ما يفرح قلوبهم، ويحرك مشاعرهم ويلامس دواخلهم، في تجربة سعيدة وملهمة".
ولا تخفي الخميس أن المهرجان واجه هذا العام تراجعاً في المردود المالي الأساسي، غير أن التعامل بإيجابية مع الأمر للحفاظ على المستوى العالمي الذي وصل إليه، يتوافر عبر إيجاد حلول للتغلب على الصعوبات، فـ "من دون دعم مالي قوي لا يمكن البناء والتطوير في المجال الثقافي، كما فعلنا طوال السنوات الماضية، خاصة أننا نركز على الاستثمار في جيل الشباب ودعم النهضة الثقافية المتحققة على الأرض الآن، لنكون جزءاً من حضارة البلاد، وهذا ليس دور المؤسسات الحكومية وحدها بل دور أفراد المجتمع أيضاً".
وأوضحت أنها مع فريق العمل بحثوا عن حلول أكثر إبداعاً ومواءمة للقضايا العامة، فاختاروا شعار "الثقافة والتسامح"، وفي الوقت نفسه اختاروا المملكة العربية السعودية ضيف شرف للإضاءة على الدور الذي تقوم به، لتكريس أسس التسامح والتلاقي بين الأمم والشعوب، وفي هذا الإطار يكرم المهرجان المملكة في شخص جان أبوظبي، بينما تمنح الجائزة عالمياً لكل من الدكتور غسان سلامة (وزير الثقافة اللبناني الأسبق) وعازف الترومبيت العالمي وينتن مارساليس، والموسيقي "يو- يو ما" وفرقة طريق الحرير.
وتحت شعار المهرجان، تم الاشتغال على الجانب الفكري من الموضوع، وتقول الخميس: "يحتدم الجدال في هذا الوقت وتتضارب الآراء، وهناك حرب وصراع ضدنا وضد ثقافتنا، فقد وُضعنا محل تساؤل، وعلينا أن نري العالم أننا أمة متسامحة ولها باع في الثقافة والفكر، علينا إعادة تعريف العالم بنا، وكان علينا ترجمة كل ذلك بميزانية قليلة، فاشتغلنا مع رواد الفكر والفن وتفاهمنا معهم وتحقق الأمر بيسر لأننا متفقون على هدف أكبر، فمثلاً الفنان العالمي "يو- يو ما" سيقدم مع فرقة "طريق الحرير" عملاً قوياً يجمع الجدل الأميركي مع الصيني مع الإيراني مع السوري على مسرح واحد، تجسيداً لشعار المهرجان "الثقافة والتسامح"، بالإضافة إلى ذلك سيساهم العازفون في البرنامج التعليمي رغم قلة الدعم، لقد رحبوا بهذه المساهمة الإضافية بطيب خاطر.
خلاصة القول أن التعامل مع العالم والمثقف والفنان والناس عموماً بمحبة واحترام وتقدير، يشجعهم على التعامل معك بتقدير متبادل وربما أكثر، وهذا أمر لا يقدر بثمن في العلاقات الثقافية والإنسانية".
وأوضحت أن البلد ضيف شرف المهرجان لا يساهم بالضرورة مالياً، فالتمويل الأساسي يأتي من مهرجان أبوظبي، بينما يساهم شركاء استراتيجيون في التعليم والثقافة في التمويل والدعم وتسهيل الإجراءات الإدارية والفنية لفعاليات المهرجان المختلفة. وقالت: "الاحتفاء بالدولة ضيف الشرف هو احتفاء بفكر هذا البلد وثقافته وعطاؤه وما يجرب أن يقدمه إلى العالم، خصوصاً في ظل الحروب التي تحيط بنا، والأمل الذي يشيعه في المستقبل رغم ذلك".
وترى الخميس أن هناك دوراً أساسياً للثقافة في تكريس مبادئ التسامح، وتوضح: "الأمة التي تحتضن الثقافة هي أمة متسامحة بالضرورة، فلا يمكن للمثقف صاحب الإحساس الرقيق والرؤية والعقل المتجدد والفكر المنفتح، أن يحيا من دون أن يكون متسامحاً؛ لأن عليه أن يتقبل الآخر، وفي الإمارات نعيش هذه الحالة، فالثقافة والتسامح هما وجهان لعملة واحدة، وليكون الشعب منفتحاً ومتسامحاً لا بد أن يكون المثقف متفهماً ومتقبلاً للآخر حتى لو كان يعارض فكره، فقد لا يتفق مع فكره لكنه يتقبله ويحترمه، ويبني على الفكر المتجدد، واحترام الآخر وإسعاده أيضاً. التسامح والثقافة يغذي أحدهما الآخر، وينموان مع بعض".
وحقق المهرجان تعاوناً مؤسسياً مع جهات عدة ليست لها صبغة ثقافية واضحة، مثل التعاون مع هيئة البيئة - أبوظبي لتقديم معرض تشكيلي يقام في حديقة "أم الإمارات" بالعاصمة، من 21 مارس إلى 21 أبريل، احتفاء بالذكرى السنوية العشرين لتأسيس "الهيئة"، يشارك به العديد من الفنانين الإماراتيين والعرب الذين تم تكليفهم بأعمال تحت عنوان "الطبيعة: خلقٌ وإبداع". كما يتعاون المهرجان منذ خمس سنوات مع مراكز "إيواء" لضحايا الاتجار بالبشر، بتنظيم معرض "تعابير صامتة" الذي يمثل تجربة استشفاء بالفن للضحايا، تشرف عليها الفنانة جنيفر سايمون وبالتعاون مع مركز "لاتيليه للفنون"، ضمن برنامج لإعادة تأهيل الضحايا والعودة إلى الحياة الطبيعية.
وترى الخميس أن التعاون بين أكثر من جهة لتحقيق أهداف نبيلة أمر مهم في العمل الثقافي، ويصب في خدمة المجتمع والإنسان، فالانطلاق من أهداف تنموية مستدامة يساعد على التوسع في العمل للوصول إلى إبعاد إيجابية أكبر مما كان مخططاً له. وترى أن العمل مع هيئة البيئة- أبوظبي يمكن الفنان من إيصال رسالة الجمال والدهشة التي تحيط بنا وربما لا ينتبه لها كثيرون، أما التعاون مع مراكز "إيواء" فهي لفتة إنسانية لمحاولة ترميم الأنفس التي لم ينصفها الدهر وإعادة الاحترام والثقة لهم ليقفوا على أقدامهم من جديد.
وفي هذا الإطار، تعتبر الخميس أن عمل مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون التي تدير مهرجان أبوظبي، مكملاً لعمل المؤسسات الثقافية الأخرى ويدخل في إطار التنافس الإيجابي، غير أنها ترى تميزاً في عمل كل مؤسسة، وتقول: "الإبداع في إدارة كل مشروع يظهر الفرق بينها، فالقوة في الإحساس بالمكانة التي وصل إليها المشروع، والاجتهاد لتحقيق الغايات باستمتاع الناس وإنماء الوعي لديهم. وأعتقد حتى تكون نهضة حقيقية ونكون نحن الوجه الحضاري الذي يشرق على العالم ويستمر، لا بد أن تعمل أكثر من جهة وأكثر من شخص في الاتجاه نفسه، فقبل 14 عاماً عندما بدأنا لم تكن هناك دار أوبرا في دبي، فهل وجودها اليوم يلغي المهرجان؟ طبعاً لا بد أننا أثرنا في مكان ما وبطريقة ما لتولد أوبرا دبي، وربما هو ما حفز سابقاً لتقديم برنامج أبوظبي للموسيقي الكلاسيكية".
وتضيف: "إذا كنا نعمل بشكل إيجابي للاستثمار في الفكر والإنسان لنفتح أبواب الفكر المتجدد والوقوف مع الإبداع ومساندة المبدعين، لا بد أن تتصدى للأمر أكثر من جهة، ولا بد من التعاون المشترك، فهناك مكان يتسع للجميع".
وعن مدى اقترابها من تحقيق أهدافها بعد 14 دورة متواصلة من المهرجان، قالت الخميس: "لم أكن أحلم بأن مهرجان أبوظبي سيأخذ هذا الحيز، فقد بدأنا بمهرجان يعنى بالموسيقى الكلاسيكية فقط، واليوم أصبح مهرجان أبوظبي يحتضن العديد من من مدارس الفن بأشكالها المتعددة، بما فيها الفنون التشكيلية بأنواعها وفنون الأداء من مسرح وباليه كلاسيكي ومعاصر، وهو مكان للقلم والفكر والطفل والسينما، أنه مكان لمن لديه طموح. كان المهرجان بالنسبة لي صقراً صغيراً وفتح جناحيه وحلق بي وأخذني إلى العالم، وأصبح لدينا تعاون دولي وحضور عالمي مميز في أهم المراكز الثقافية والفنية في العالم".
وتشغل الحفلات الموسيقية بتنوعها حيزاً كبيراً من برنامج مهرجان أبوظبي، إذ تؤمن الخميس أن الموسيقى ترقى بالشعور النفسي والروحي، وقادرة على أن توحد الناس على اختلاف ثقافاتهم ودياناتهم، وتقول: "في حفلات المهرجان تحضر أمم مختلفة من كل ملة ومكان للاستماع إلى الموسيقى، وقد لا يفهم الجميع لغة الغناء، لكن الموسيقى لها القدرة على إلهامنا وإثارة الحنين إلى أوقاتنا الجميلة وتذكير المهاجرين ببلدانهم. الموسيقى لا يمكن التخلي عنها إنْ دخلت القلب".
ولم يكن هناك وقت أحوج لنا وللعالم، من هذا الوقت، ليعلن فيه الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، أن عام 2017 هو "عام الخير". تضع هذه المبادرة إطاراً تنموياً مستداماً للخير في دولة الإمارات، وتنشر ثقافة التطوع والعطاء، وتعزّز مسيرة العمل الإنساني والخيري التي زرع بذارها المغفور له، بإذن الله، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، واستحوذت على مكانة متقدمة في فكره واهتمامه، وما زال عطاء أبناء زايد الخير يتواصل حتى باتت الإمارات عنواناً للعطاء على مستوى العالم.
إن الثقافة والفنون تلعب دوراً مهماً في إيصال رسائل الخير وحب الوطن وخدمته والتعبير عنه بالفعل لا بالقول، عن طريق غرس ثقافة التطوع ورد الجميل للوطن.