الشارقة - جمال أبو سمرا
كان الراوية محمد بن خلفان الرويمة المهيري من الرجال المثابرين الذين عاشوا شبابهم في ذلك الزمن الذي كان يحتاج إلى صبر ومكابدة، ولا يقوى على مسايرته إلا من تحلوا بالعزيمة ونفضوا عن أنفسهم أثواب الكسل والخمول، وقد شمر الرويمة منذ البداية عن سواعد العزيمة، ورمى بنفسه في الخضم، ينتزع أسباب عيشه من بين الأمواج العاتية .
ركب الرويمة البحر وهو مراهق قد مر بالكتاتيب عند المطوع، وبمدرسة العلوم الإسلامية والعربية التي أسسها عبدالكريم البكري في عجمان، ولا يزال عوده طرياً، لكنّه عرف بالفطرة أن عليه أن يسلك ذلك الطريق، وأن يقتحم الميدان، فكان يصحب والده في رحلات التجارة البحرية، إلى جزيرة سوقطرة والسواحل الشرقية لإفريقيا، وسريعاً اكتسب خبرة في البحر، وعمل في مهنة "المزر"، وهي مهنة تجارية يقوم فيها بتزويد البحارة والغواصين على ظهر سفن الغوص بالمواد الغذائية والماء العذب .
في تلك المهنة، كما يروي الرويمة، تعلم الكثير عن البحر، وتطورت تجارته وكانت المواد الغذائية التي يطلبها البحارة متنوعة وأكثرها من اللحوم المجففة والخبز والأكلات الشعبية المعدة لتحتمل طول المدة والبسكويت والتمر والمكسرات وغيرها، وقد أصبح الرويمة ثقة النواخذة والبحارين، وحفظ الكثير من قصصهم، وعرف المصاعب التي يتعرضون لها في عرض البحر، وكيف يتصرفون عندما تداهمهم رياح عاتية أو أمواج جارفة، فتظهر شجاعتهم، وقوتهم في مواجهة تلك المواقف واحترافهم في عملهم، وعندما يكونون في ساعات الراحة الليلية ويبدؤون الغناء ومواويل النّهّام، بأصواتهم الشجية التي يقودها أحسنهم صوتاً ويتمايلون طرباً، فيشيع الفرح في أجواء السفينة وينسون للحظات مكابدة ذلك العالم الهائل المخيف .
بعد سنوات الغوص وما رافقها من مسرات ومصاعب، يدخل الأسواق اللؤلؤ الصناعي فتسقط قيمة اللؤلؤ الطبيعي ويتراجع بشكل سريع، ما قضى على مهنة الغوص والمهن المرتبطة بها، ولا يلبث الرويمة أن ينقل اهتمامه إلى التجارة البحرية، فيرحل إلى مدن كثيرة وجزر عديدة كالبصرة وسوقطرة، والساحل الشرقي لإفريقيا، مثل تنزانيا ومومباسا، وفي تلك الموانئ كان أصحاب السفن التجارية الإماراتية يشترون المواد الغذائية وخشب البناء واللباس ويعودون به لبيعه في موانئ الخليج، وقد زودته تلك الرحلات الطويلة بمعرفة خاصة في مسالك البحر، ومعالم طرقه، وكان يصفها في مروياته وصفاً دقيقاً، ويفصل في معالم البحر والجزر والمسافات بينها، والتوقيت الذي يمكن أن تقطعه السفينة بين ميناء وآخر، وجزيرة وأخرى، والممرات التي تكون أمواجها هادئة وتلك التي تكون أمواجها عاتية، وغير ذلك من المعلومات التي كانت مفيدة للسفن والبحارة التقليديين، وكانت معرفتها تشكل طوق نجاة لهم من مفاجئات البحر وكوارثه، ويقول الباحث عبدالعزيز المسلم عن تلك الخبرة: "محمد بن خلفان الرويمة ذلك الربان المتمكن والعارف بشؤون البحر ومجاري السفن، الذي قضى عمره في البحر ومجاهيله" .
خبراته البحرية المبكرة كانت سنداً له في مواصلته للعمل عندما قل مردود التجارة البحرية التقليدية وتراجع بسبب ظهور سفن الشحن العملاقة الحديثة التي أصبحت تزود موانئ العالم بما تحتاج إليه، فكان أن انتقل للعمل أولاً في صيد السمك وبيعه في الموانئ القريبة، خاصة موانئ السعودية والكويت، ثم لم يلبث أن انتقل للعمل مع المندوب البريطاني في قاعدة "الجفير" البحرية في البحرين، ثم انضم لخفر السواحل في الإمارات في عام ،1972 ثم جمارك دبي عام ،1972 وكان ذاكرته القوية تحتفظ بقصص ومشاهدات عن كل مرحلة من تلك المراحل ما يشكل كنزاً حكائياً مهماً في كتابة فترات التحول في الإمارات، ونتيجة للمعلومات التي قدمها خلال مروياته عن تلك الفترات والمهن المتعددة، كرّمته إدارة التراث في دائرة الثقافة والإعلام في الدورة السادسة من يوم الراوي التي أقيمت عام ،2006 ونشرت له سيرة ذاتية مختصرة في كتاب "يوم الراوي" .