دبي - صوت الإمارات
يظل صحيحا القول إن التعبير عن عبقرية لغة من اللغات لا يتأتى إلا في الاستخدام، وفي الاستخدام الشعري بخاصة، ولكن ما يحدثُ في عالمنا الشعري عكس هذا تماماً، أي أنه لا ممارسة كتابية، بما في ذلك الشعرية، يتأتى لها أن توجد خارج معجم اللغة الأعلى، لغة النحو والدلالات المقيدة مسبقاً . لهذا السبب يمكن أن نلاحظ أن جمهور القراء بعامة لايطلب من القصيدة إلا شيئاً واحداً هو التفسير . إنه يريد شرح الصورة وليس ذات الصورة، يريد خلاصة التجربة وليس ذات التجربة، وهكذا تندرج الحياة العلنية للقصيدة في شرح ماهو شعري أو التلميح إليه، أما الشعر ذاته فيظل في أفضل الأحوال بياناً غامضاً يعيش حياة سرية، قد يُكتب في حياة شاعر وقد لا يُكتب .
هذا التضامنُ بين المعجم وبين ذائقة القارئ، وهو تضامنٌ جاء كحصيلة تاريخ طويل، هو ما يحاصر الشعر بوسائل مختلفة، إنه يحاصره حين يطالب كلماته بأن تحسن سلوكها، فتتطابق مع الدلالات الجاهزة، ويحاصره حين يصر على أن الكتابة لعبة هندسية مشتركة بين الشاعر والقارئ، يقوم فيها الشاعرُ برسم نصف قوس ويكمل القارئ النصف الثاني .
يمكن أن نرجع سبب هذا الحصار الذي لايشعر به إلا الشعراء، وليس ظلال الشعراء، إلى طبيعة "وعي اللغة" في الذهنية العربية بعامة . اللغة التي نتلقاها منذ مقاعد المدارس الابتدائية هي لغة خارجية تقريباً، خارج النفس والمحيط والبيئة . إنها موجودة بعوالمها وعلاقاتها على الورق فقط، ولا تنبع من الداخل، داخل النفس والمحيط الحي . أو قد تكون مما نبع ذات يوم من محيط حي إلا أنه اندثر وتركها شبه دالة ولكن بلا مدلول، أي ذات معنى ولكن لايوجد شيء تدل عليه، شأنها في ذلك شأن لفظة الحصان المجنح ذات المعنى ولكن لاوجود لشيء تدل عليه .
نحن نستخدم مثل هذه اللغة الخالية من أي نبرة خاصة في الامتحانات وكتابة الرسائل والتقارير والمقالات . الخالية من نبرة الأعماق والدواخل، تلك التي لها لغتها وترابطاتها العلائقية، ولها طرائق نمو مثل شيء يجري من الداخل وإلى الداخل يعود . إنها ما لايقال إلا بحذر شديد، ويتلقى شتى العواصف والصدمات . وحين يستخدم الشاعر اللغة لايكون إلا في ماندر خارج هذا الإطار وإلزاماته، أو خارج التمييز بين واجب الكتابة وواجب الداخل ومقتضياته .
الواجب الأول يتلقى دروسه بالطبع من الديوان الشعري، ويتلقى معه سيلاً من القيم تنشأ على أمواجه وضفافه بنية ذهنيته الشعرية، فتظل ممارسة "الشعر" خارجية . وكثيراً ما يغفل الشاعر، والشاعر الظل عادة، أن صورة اللغة المكتوبة ليست هي اللغة نفسها كما تقال في موقف أو لحظة شعورية، وأن الكثير مما ننطقه أو يترافق مع النطق لايمكن كتابته . والحق أن تمايز الأساليب في ثقافة ما ليس سوى تمايز شخصية عن أخرى .
هذه الممارسة الخارجية للغة هي بأوضح معنى ممارسة للكلام كما هو على الورق، ووفق مقتضيات ليست نحوية فقط بل وشعورية وذهنية أيضاً . مثل هذه الممارسة تحيل التجربة والخبرة الحية إلى الصور المكتوبة، إلى النصوص، وليس العكس . ما يحدث هنا هو أن هذا الفصل بين النص وواجب كتابته وبين اللغة العميقة كنطق وممارسة، يجعل معضلات المعاش والملموس والجزئي تحتل مساحة ضيقة في الشعر، أما المساحة الواسعة فتستولي عليها لغة الخارج القابع في الصور الكتابية الموروثة، أو ما نتوهم أنه موروث، والجاهز دائما ليزن الكلام بميزانه الحساس، لهذا السبب يجد الكثير من الناس أنفسهم أقرب إلى الأغنية الشعبية البسيطة منهم إلى العمائر الشعرية، حتى وإن بدت باذخة، التي يكتبها أصحابها وفق مقاييس اللغة التي يُزعم أنها فصحى .
معنى هذا أن تجارب الشعراء تظل سرية، حتى وإن وجدوا الأمان علناً على سطح اللغة الخارجية، ومعنى هذا أن تزوير الحياة نفسها قد يكون تزويراً لاواعياً، وبعضهم، إن أدرك بحسه الفطري الهوة الواسعة بين مقتضيات دواخله ومقتضيات اللغة الخارجية، قد يحاول البحث عن طرائق تخلق لحمة بين الداخل والخارج . وأعتقد أن حركات التجديد الشعري، ما تطرف منها بخاصة، منبعها هذا التوق إلى إيجاد مصالحة شعورية بين طرفين، بين ما نراه ونشعر به وبين قوالب التعبير . وهناك ملحوظة همس بعض النقاد ذات صلة بما نعنيه هنا، لاحظ أن مقدمات نثرية لبعض القصائد كثيراً ماتكون أكثر شاعرية من القصيدة ذاتها . فلماذا يحدث هذا؟
يحدث هذا لأن المقدمة النثرية قد تكون هي مساحة الحرية الوحيدة التي يستطيع فيها شاعر السباحة من دون ضوابط، ومن دون مواصفات يُخضع نفسه لها، أو تخضعه بيئته لها، حين يعرف أنه مقبل على كتابة الشعر لا النثر . وربما كان سبب ملحوظة بعض هؤلاء النقاد، هو أنه لم يستطع حتى الآن الخلاص من فكرة أن النثر نقيض الشعر، ولم يصل بعد إلى فكرة أن نقيض الشعر هو النظم الرديء، نظم ظلال الشعراء . هنا، في هذا الشاهد، يبرز الفرق بين الداخل والخارج أيضاً، وقد يظهر على شكل توتر لدى بعض الشعراء من ذوي التجارب المتميزة، ذوي الأمانة مع النفس ومع القارئ، فيطغى الخارج على قصائدهم بما يجره هذا معه من تقليدية في التصور وإدراك العالم، أو يطغى الداخل بما يعنيه من غرابة وإدهاش وحس بصخب المعاش والبسيط ونبضه المتواصل . وعلينا أن نؤكد هنا أن النبرة الخاصة ليست مجرد اجتهاد لغوي، إنها ذاكرة تود أن تحيا أيضاً، وحياة وطموح إلى تجاوز الواجبات "المدرسية" ونيل استحسان المعلمين . وإذا كان بعض اللغويين يميز بين ما يسمى سمات ما قبل اللغة، أو لهجة النطق، بوصفها خصائص لا يمكن أن تحتويها اللغة المكتوبة، فإننا نعطي أهمية كبرى لمثل هذه السمات الشهيرة تحت مصطلح "السمات الدلائلية" بوصفها التعبير عن داخلية التجربة . وحين يتحدث الألسنيون عن التمييز الشهير بين اللغة كنظام للسان، وبين اللغة في الاستخدام كنظام للكلام ذي خصائص تعبير فردية،، أو حين يتحدثون عن القدرة الألسنية بوصفها جملة القوانين اللغوية، وعن الأداء بوصفه الشكل الذي تتخذه اللغة في الممارسة وتكون له قوانينه التي تحتاج إلى علم الدلالة للكشف عنها، فإن ما يشير إليه هذا التمييز بأشكاله المختلفة هو بالتحديد التمييز بين خارج نسميه اللسان، وداخل ننسب إليه نشاط المتكلم الفعال الذي يعتمد أيضاً على قوانين اللسان، ولكن لحساب شيء آخر هو المعاش الإنساني، أي التجربة التاريخية .