التراث

تشكّل مادة التراث عنصراً مركزياً في نمط التفكير والوعي الاجتماعي المحلي لما تختزنه من معان عميقة وعريقة في حياة الإنسان الإماراتي، تعكس، بالضرورة، ثقافته وطريقة عيشه وتصالحه مع البيئة التي كان يعيشها وانسجامه معها رغم ما كانت تتسم به من قساوة وصعوبة .

بغض النظر عما تثيره كلمة "تراث" من إشكال معرفي وفكري شغل الكثير من النخب العربية قديماً وحديثاً حول مدى إمكان الاستفادة من التراث ومسايرة ركب الحداثة في الوقت نفسه، إلا أن واقع الحال يدّلل على أهمية التراث بوصفه إرثاً ثقافياً تركه السابق للاحق بما يحويه من قيم ومثل وعادات قولية وعملية .

ومن هذا المنظور تشكّل الأمثال الشعبية إطاراً ثقافياً ثرياً يختزل خلاصة تجارب السابقين وحكمة الأقدمين للحذو حذوها والاستفادة منها، ويختلف الدارسون والباحثون في تعريف الأمثال وتحديد دلالتها ومعانيها ومقاصدها، وترى الدكتورة موزة غباش أن الأمثال الشعبية هي "التعبير اللفظي والمتداول بغير تبديل أو تغيير في لفظه الحرفي، والتي تمثل بما تنطوي عليه نصوصها وألفاظها من خلاصات التجارب، واستقرار للواقع، وتراكم للخبرة والمعاناة التاريخية، وهي تشبه القواعد والخطوط النظرية للسلوك العلمي".
 بينما يرى د . علاء إسماعيل الحمزاوي أن الأمثال الشعبية "تركيب ثابت شائع موجز، يستخدم مجازياً صائب المعنى، يعتمد كثيراً على التشبيه، وله ميزات وسمات يتسم بها هي: الإيجاز البليغ والاستعمال الشائع، والتشبيه، وجمال اللغة، والثبات، والاستعمال المجازي، وجودة الكناية، بالإضافة إلى أنه قابل للاستخدام في سياقات مختلفة، غير أن علاقته بتلك السياقات خاضعة لقواعد دلالية خاصة"، ويضيف د . أحمد محمود الخليل في كتابه "حكمة الأجداد في تراث مجتمع الإمارات" توضيحاً شارحاً ومبسطاً للأمثال، ويرى أنها تعبير عما تمتاز به الجماهير من عمق في المبادئ، ونبل في القيم، وتشبث بالأصالة، وهي أيضاً تعبير عما يمتاز به الحكماء الشعبيون من شمولية في الرؤية ودقة في الملاحظة ووضوح في التفكير، وصدق في التعبير، وحكمة في التوجيه، وإيجاز في التبليغ، وعفوية في الصياغة، وحيوية في العرض .

وتعتبر الأمثال الشعبية مرآة الشعوب وخلاصة تجاربها الحياتية وسجل حكمة الأجداد وتختزن في طياتها التجربة الإنسانية على مر العصور، لما تحويه من أخلاق وقيم ومثل إنسانية تعبّر بوضوح عن تراكمات التجربة البشرية وثرائها وغناها، وتحتفظ في معانيها ومضامينها بالمآثر والقيم والعادات والتقاليد والأعراف المجتمعية، وتحض على السلوك السويّ المحمود وتنفر من المسلكيات السيئة المخالفة لما درج عليه الأقدمون .
وتحتفظ الذاكرة الجمعية في الإمارات بنماذج عديدة ومتنوعة من الأمثال الشعبية بشقيها المدوّن والموثق أو المروي المتناقل عبر الروايات الشفوية، وهي تشي في مجملها بعمق التراث الإماراتي وحضوره وتأثيره في واقع الحياة اليومية .
وبالعودة إلى أصل المثل الشعبي نجد أنه غالباً ما يرتبط بقصة أو حكاية تكون وراء ابتداعه، وسبباً في ذيوعه وانتشاره، وهو يغني، كما يقول عبيد راشد بن صندل، "عن التعليق على حدث، أو سرد قصص قد يطول شرحها، فتقال بكلمتين أو أكثر، فتفي بالغرض، وتعبر عن الحدث أو القصة أبلغ تعبير، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف المجتمعات في تجاربها واستخلاص أمثالها، وقد تتشابه الأمثال لتقارب المجتمعات وتقارب ظروف حياتها" .
وتعكس الأمثال الشعبية الإماراتية بغناها وثرائها حالة التراكم المعرفي والقيمي الذي عرفه المجتمع على مدى مئات السنين، ويتجلى ذلك التراكم في صور وأشكال اجتماعية وتاريخية ولغوية، ذات أصل ثقافي وتراثي يحيل إلى قيم وأخلاق مواعظ وعادات واعتقادات كانت سائدة فترة من الزمن، تم تداولها بلغة محلية خالصة .
وتتعدد مواضيع الأمثال وتتنوع تبعاً لاستخدامها وما تضرب له، فهي إما أن تحث على فعل حسن وسلوك قويم وتدعو إليه كالشجاعة والجود والكرم والإقدام والفروسية وغيرها من الصفات الإيجابية، ومن بين أمثلة هذا القسم: "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، اصدق وشارك الناس في أموالهم، اندب رجال ولا تندب دراهم إن الرجال تجيب الدراهم"، الجود من المجهود بالموجود، الذهب هو الذهب ما يتغير، الشباب شعلة من نار، الكذب حبله قصير، اللي ما يطيع يضيع، المطر قطرة على قطرة يصير غدير، الناس للناس والكل بالله، الميت لا تضره الطعنة، خادم القوم سيدهم، خذ الزين لو غالي، خير الكلام ما قل ودل، دياية الشيخ شيخة، زينك مغطي شينك، صبرك على نفسك ولا صبر الناس عليك، عليك بالدرب ولو طال، لا تسرف ولو من البحر تغرف، لا تكثر الدوس على الخلان يملونك وغيرها .
أما القسم الثاني من الأمثال فيدور حول ذم الممارسات الاجتماعية والعملية التي تتنافى مع قيم المجتمع وأخلاقه وموروثه، وتنفر منها وتحض على البعد عنها كالجبن والبخل والجشع والطمع والظلم والتسلط وغيرها من الصفات السيئة، ومن أمثلة هذا القسم: اتق شر من أحسنت إليه، القطو العود ما يترب، العور تعيب على أم فص، السمكة الخايسة تخيس السمك كله، الساحة فضاحة، الصايع ضايع، العومة مذمومة، اللال ما يروي العطشان، اللي ما يدانيك يخرّب معانيك، اللي ما يستحي يفعل ما يشتهي، النار ما تخلف إلا الرماد، اليدار الواطي كلن يحومه، اللي ما زارني والديار مخبفه لا مرحبا به والديار أمان، اللي يسرق العرة يسرق الجوهرة، إن السفينة لا تمشي على اليابس، تاكل ولا تنوكل، من يزرع الشوك يجنيه، من حفر حفرة لأخيها وقع فيها، يوم الناس اتقفل خميس راح الغوص، وغيرها كثير .
إن القيمة التاريخية والتراثية للمثل الشعبي تجعل منه عنصراً مهماً في تشكّل الوعي الثقافي والتراثي للمجتمع، ووسيلة لا غنى عنها لربط الأبناء بتراث الآباء والأجداد للتشبث به في حياتهم اليومية حتى يكون حصانة لهم تقيهم من الانسياق خلف أي سلوك دخيل على مجتمعهم .
- See more at: http://www.alkhaleej.ae/supplements/page/52804af7-b607-4d3a-9604-ed3af73d2606#sthash.MptIyjTa.dpuf