القاهرة - أ ش أ
في عام يقترب من نهايته شكل مؤتمر مؤسسة الفكر العربي الذي اختتم امس "الثلاثاء" بالقاهرة علامة أصيلة على الطريق لدعم العمل الثقافي العربي المشترك فيما جاءت كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في افتتاح هذا المؤتمر الذي استمرت أعماله ثلاثة أيام لتعبر عن أماني وطموحات المثقفين العرب من المحيط إلى الخليج وإدراك مصر الخالدة أن الإرهاب بات يشكل خطرا وجوديا على الأمة العربية.
وجاء هذا المؤتمر الذي عقد برعاية الرئيس عبد الفتاح السيسي وحضره اكثر من 150 مفكرا وباحثا من الدول العربية الى جانب مائة من شباب الباحثين والعديد من ممثلي المؤسسات والمنظمات العاملة ضمن إطار جامعة الدول العربية وغيرها في وقت يشعر فيه كل مثقف عربي بأن الحاجة ملحة "لنظام عربي جديد" ناهيك عن "تحالف عربي لمحاربة الإرهاب".
وفيما يشكل الإرهاب أخطر تحديات المرحلة الراهنة تستدعي اللحظة العربية بمعطياتها جهدا ثقافيا استراتيجيا برؤى مبدعة "للعروبة الثقافية" للإجابة على أسئلة تتعلق بوجود الأمة وطبيعة النظام العربي الجديد في وقت تتشكل فيه ملامح نظام عالمي جديد.
كان الرئيس عبد الفتاح السيسي قد تناول في كلمة في افتتاح المؤتمر الرابع عشر لمؤسسة الفكر العربي التحديات التي تواجه المنطقة العربية في راهن اللحظة وسبل وآفاق التعامل معها فيما وصف بعض هذه التحديات بأنها باتت تشكل "تهديدا وجوديا مباشرا" لكيانات دول عربية ومقدرات شعوبها.
ومن هنا فالأمر كما أوضح رئيس مصر في كلمته يوم الأحد الماضي يتطلب ضرورة الحفاظ على وحدة التراب الوطني للدول العربية وتفعيل النظام الإقليمي العربي لتحقيق التكامل على جميع الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والثقافية.
وشدد الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته على ضرورة إنشاء القوة العربية المشتركة كأداة مهمة للدفاع عن قضايا الأمة وقال :"دعونا نعمل معا من أجل تحقيق مراد الله من خلقه, نصون أوطاننا ونحافظ على مقدرات شعوبنا, ندافع ولا نعتدي, نبني ولانهدم, نؤمن بالتعددية فعلا لا قولا ونتخذ منها وسيلة وحافزا على مزيد من العمل والإنتاج في شتى مجالات الحياة".
ولفت الرئيس إلى أن مصر تحتضن مؤتمر مؤسسة الفكر العربي إيمانا منها بأهمية تحقيق التكامل العربي وتعزيز العمل العربي المشترك وصولا الى غايات الشعوب العربية في تعاون اقتصادي تتوجه السوق العربية المشتركة وتعاون عسكري وأمني تدعمه القوة العربية المشتركة وترابط ثقافي وحضاري يقي الأمة العربية ويلات الفكر المتطرف ومخاطر وتهديدات الإرهاب ويرقى بالذوق العام فينتج نهضة ثقافية تكلل كل هذا التعاون وتغلفه في إطار حضاري راق ومتميز.
وأوضح الرئيس عبد الفتاح السيسي في كلمته أن صعود الجماعات المتطرفة التي تمارس الإرهاب وانتشارها في بعض الدول العربية أدى إلى إذكاء ثقافة العنف الديني والمذهبي ونشر الفكر التكفيري بما يهدد الوحدة الوطنية ويفرض قيودا على حرية الرأي والتعبير والإبداع بكل إشكالها الأمر الذي ينعكس سلبا على أوضاع الثقافة والمثقفين العرب ويمثل بيئة مواتية لظهور مشاريع سياسية ودينية ومذهبية تسعى الى تغيير واقع جغرافيا الدولة الوطنية وذلك من خلال صراعات مفتعلة بين الفكرة العربية الجامعة وبين مدعي الفكر الإسلامي.
وطالب الرئيس بتفعيل دور جامعة الدول العربية والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الالكسو" وتطوير العلاقات الثقافية بين دول المنطقة المتقاربة ثقافيا من خلال المؤسسات الحكومية والأهلية بحيث تزداد الروابط والموحدات الشعبية والرسمية كما دعا لتنسيق الجهود العربية للعمل على حماية التراث الأثري العريق الذي يتعرض للتدمير والنهب في عدد من الدول العربية جراء العمليات الارهابية.
وفيما عقدت مؤسسة الفكر العربي التي ظهرت لحيز الوجود قبل 15 عاما مؤتمرها الرابع عشر بعنوان "التكامل العربي: تجارب. تحديات وآفاق " في مقر جامعة الدول العربية بالقاهرة فان الأمير خالد الفيصل رئيس هذه المؤسسة اتفق مع الدكتور نبيل العربي الأمين العام للجامعة العربية على اهمية التحرك الجاد والفعال باتجاه تفعيل التكامل العربي بكل جوانبه السياسية والاقتصادية والأمنية والثقافية.
وكانت مؤسسة الفكر العربي قد أطلقت تقريرها الثامن للتنمية الثقافية والبشرية فيما لفت الأمير خالد الفيصل إلى أن مهمة المؤسسة هي العمل على استشراف المستقبل فكريا وثقافيا وهي في هذا السياق تقوم بطرح الأفكار والحلول للمشكلات المطروحة في الواقع العربي لكن التنفيذ منوط بالحكومات.
ولم يبالغ الدكتور هنري العويط المدير العام لمؤسسة الفكر العربي عندما وصف هذا المؤتمر الذي اختتم أمس بالقاهرة بأنه "استثنائي" موضحا انه يتناول "التكامل العربي في ظروف ومعطيات بالغة الدقة والخطورة".
فهذا المؤتمر الذي تزامن مع الذكرى السبعين لتأسيس جامعة الدول العربية جاء في ظروف غير عادية تمر بها عدة دول عربية بعضها يواجه مخاطر وجودية بالفعل وتهديدات جسيمة للبنية المجتمعية ومحددات الهوية القومية.
وكان من حسن الطالع ان تتجلى "ثقافة السؤال" في هذا المؤتمر او التظاهرة الثقافية العربية الكبرى بالقاهرة حيث اعلن الأمير خالد الفيصل رئيس مؤسسة الفكر العربي في كلمته الختامية ان "المؤتمر طرح العديد من الاسئلة التي تؤسس لمرحلة جديدة من العمل العربي المشترك" منوها بأن المؤسسة ماضية قدما "بحماسة الشباب وبحكمة الشيوخ".
ولعل الدول العربية كلها بحاجة "لحماسة الشباب وحكمة الشيوخ" من أجل صحوة عربية جديدة تستند على نظام عربي جديد وتسهم أيضا في ترسيخه بينما يفعل الإرهاب أفاعيله في دول عربية ويهدد وجودها كدول بعد أن الحق خسائر فادحة بتراثها الثقافي وشواهد حضارتها الإنسانية المتسامحة كما لا يتردد في ذبح بشر أبرياء هنا وهناك أمام الكاميرات ! .
وتتطلب ضرورات الأمن القومي العربي أن يكون النظام العربي الجديد قادرا على التصدي لأي طرف محسوب على الأمة العربية لدى قيامه بالأقوال والأفعال بمساندة الإرهاب و التورط في مستنقع الإرهاب الذي يشكل خطرا داهما على هذه الأمة.
وثمة اتفاق عام ومحسوس بقوة في الشارع العربي على أنه لم يعد من المقبول ان يستمر طرف ينسب نفسه للأمة العربية في حروبه الإعلامية التي لا تخدم سوى أعداء هذه الأمة وفي وقت تسعى فيه بعض القوى الإقليمية غير العربية لاحتكار الحديث باسم الإقليم كله بما فيه العرب فضلا عن احتكار أدوات القوة غير التقليدية.
ولئن كانت الأفكار ساحة يتلاعب بها الإرهاب فإن المؤسسات الثقافية والفكرية العربية ومن بينها مؤسسة الفكر العربي مدعو بكل الإلحاح لصياغة أفكار جديدة لتعزيز مناعة الأمة العربية في مواجهة الإرهاب والتطرف بكل صوره ناهيك عن أن هذا الفكر العربي الأصيل والمبتكر هو القادر أكثر من غيره على الإسهام بقوة في تأسيس النظام العربي الجديد وبحيث يتعامل هذا النظام مع القوى الإقليمية والدولية على قاعدة التكافؤ والعلاقات المتوازنة .
وإذا كانت مصر قد شكلت القاعدة الراسخة للقومية العربية في سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين فان ارض الكنانة اليوم تشكل الدرع والسيف للأمة العربية في مواجهة مخاطر الارهاب ويبادر جيشها العظيم بالرد على جرائم الإرهاب الشنعاء.
وفيما دعت مصر في نهاية العام الماضي "لإقامة نظام عربي إقليمي جديد باعتباره ضرورة استراتيجية" لفت وزير الخارجية سامح شكري في كلمة بمنتدى "حوار المنامة" العاشر منذ نحو عام لأهمية إلا يكون تجديد النظام الإقليمي العربي قائما على أساس أي من المحاور التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في العقود الأخيرة.
وأوضح شكري أن أهداف هذا النظام العربي الإقليمي الجديد مواجهة تحديات العصر وتحقيق التنمية والإعداد لتمكين الجيل الجديد فيما يأتي هذا الطرح معبرا عن حالة حراك حميد على مستوى الفكر والعمل للسياسة الخارجية المصرية واستعادة الدبلوماسية المصرية العريقة لمفهوم المبادرة بما يخدم مصر وامتها العربية معا.
وجاءت هذه الدعوة المصرية لإقامة نظام عربي جديد في وقت تتردد فيه التساؤلات حول اتجاهات النظام العالمي وما إذا كان هناك نظام عالمي جديد تتشكل ملامحه بالفعل على نحو ما قال المفكر الاستراتيجي الأمريكي هنري كيسنجر في كتابه الجديد "النظام العالمي" والذي جاء معبرا عن نظرة رجل جمع ما بين نظريات الاستراتيجية وخبرات العمل كوزير للخارجية ومستشار للأمن القومي.
ولا جدال فى أن كيسنجر "رجل التنظير والعمل معا" احد ابرز من وضعوا اسس النظام العالمي ابان الحرب الباردة بل ومرحلة تالية لنهاية هذه الحرب في مطلع تسعينيات القرن الماضي فيما يسعى بوضوح في كتابه الجديد للإجابة على أسئلة حول النظام العالمي الجديد الذي يتوجب على الولايات المتحدة ان تتبناه وتعمل على تطبيقه او بمعنى اكثر صراحة "تفرضه على العالم".
فأمريكا حسب هذا التصور الكيسنجري تقوم بالدور الأكثر أهمية في صياغة "منظومة القيم" التي تتحول "لمنظومة قيم عالمية" او قيم مشتركة للانسانية تكون "قوام الشرعية الدولية" ومن يخرج عليها يحق عليه العقاب.
وغير خاف على كل ذي عينين ان "ثعلب السياسة الأمريكية العجوز" يرمي بهذا التنظير الجديد للحفاظ على قيادة أمريكا للنظام العالمي القادم والذي تتشكل ملامحه بالفعل فيما ستكون ملامحه النهائية هي محصلة نتائج المواجهة البالغة التعقيد والتشابك والدهاء بين الولايات المتحدة والقوة الصينية الصاعدة.
وهنا يكون السؤال الذي يهمنا كعرب :"أين موقعنا وموقع النظام العربي الإقليمي المنشود مما يحدث على المستوى الكلي في العالم"؟!..لا ريب ان سؤالا بهذه الأهمية يتطلب مؤسسات بحثية عربية للإجابة عليه ويستدعي تفعيل الكيانات البحثية العربية التي يمكنها تقديم اسهامات ذات قيمة في اقتراح مثل تشكيل تحالف عربي للتصدي للإرهاب.
وفي ظل شعور طاغ بين الكثير من المثقفين العرب بأن الإرهاب بتنظيماته وجماعاته مثل تنظيم داعش مجرد ألعوبة تستخدمها القوى المعادية للأمة العربية لاستنزاف هذه الأمة وتحقيق المزيد من تفتيتها وتحويل بعض الدول العربية الى "حالة اللادولة" فقد يكون الرد الناجع على هذا التحدي تبني "ثقافة الاصطفاف العربي".
وهذه الثقافة هي القادرة على توليد "تحالف عربي لمحاربة الإرهاب" له استراتيجيته الواضحة وإرادته الحاسمة في مواجهة خطر بات بكل المقاييس يشكل"خطرا وجوديا على الأمة العربية" فيما لا يجوز لهذه الثقافة أن تغفل أو تتغافل عن أن الإرهاب ينشط في بيئة الجهل والمرض والفقر بقدر مايغذيها ويفاقم من وضعيتها المتخلفة بتشوهاتها العميقة.
وتتوالى طروحات ثقافية عربية تؤشر الى أن مسألة تأسيس تحالف عربي لمحاربة الإرهاب أمست "ضرورة عربية" على أن تكون قيادة هذا التحالف "عربية قلبا وقالبا" وتحت مظلة جامعة الدول العربية التي باتت مدعوة بدورها لاستجابات على مستوى تحديات المرحلة وتبني ثقافة جديدة في العمل والأداء بما يلبي آمال وتطلعات الأمة العربية.
وإذا كنا أمام نظامين في طور التشكل احدهما عربي إقليمي والآخر عالمي فان ثمة حاجة لتنظيرات ثقافية-سياسية مصرية وعربية على مستوى هذا المشهد الفريد مناطها في نهاية المطاف خدمة الإنسان العربي والدفاع عن قضاياه العادلة في عالم لم يعد يسمح بالعزلة ولا تتحلى القوى الكبرى فيه بنزعة خيرة لحد المساعدة المجانية للضعفاء!.
نعم تستدعي هذه الحالة تنظيرات ثقافية جادة لا تركن للسائد ولا تعتمد على المألوف وإنما ترتقي لمستوى اللحظات الجليلة وتطرح أسئلة بقدر ما تسهم في إجابات وتثري عملية التراكم الثقافي للخبرات وصولا لتأسيس "ثقافة الاصطفاف العربي ومفاهيم تكاملية حقيقية للجسد العربي الواحد".
ثمة تحديات تتطلب "لغة جديدة" و"إبداعات ثقافية استراتيجية" و"أدوات مختلفة عن السائد والتقليدي من أساليب الماضي..ان الأمر هنا يتعلق بتحول شامل طال الساحة العربية فى مجملها ويتطلب صياغة جديدة للفكر العربى للإجابة على أسئلة خطيرة تمس الوجود العربى ومفهوم الأمة الواحدة ومضمون النظام الإقليمي الجديد..فتحية لمؤسسة الفكر العربي في ختام مؤتمرها بالقاهرة المعزية وتحية لكل مثقف عربي يفكر ويعمل لبناء نظام يعبر عن أمة عربية لم ولن تستسلم لأصحاب لرايات السوداء والمجازر الشنعاء!.