جوهر القيم والأخلاق

جاء الإسلام بنظام شامل للحياة يحدد شكل علاقة الإنسان بخالقه، كما ينظم له علاقاته ومعاملاته مع الآخرين من مسلمين وغير مسلمين . . فالإسلام كما نزل به القرآن الكريم وحدد باقي ملامحه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يشتمل على العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات . . وتكاد المعاملات تمثل جماع الإسلام كله، حيث إن الأخلاق إنما تظهر عند ممارسة التعامل مع الناس، أما العبادات فإن لم يظهر أثرها على المعاملات فلا فائدة منها، يقول النبي صلوات الله وسلامه عليه: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، لم يزدد من الله إلا بعداً" . . كذلك نرى العقيدة الصحيحة تنعكس على المعاملات بين الناس، حيث يقول عليه الصلاة والسلام: "ما آمن بي من بات شبعاناً وجاره إلى جنبه جائع وهو يعلم"، أي أن المعاملات تمثل خلاصة الإسلام حيث جاء الإسلام لإصلاح الدنيا وسياستها في كل جنباتها، ولذلك كان من المنطقي أن يحصر النبي صلوات الله وسلامه عليه الدين كله في المعاملات عندما قال في الحديث الصحيح: "الدين المعاملة" .
فما أبرز المعاملات التي أقرها الإسلام أو ابتكرها الفقهاء ووجدوا لها أدلة وبراهين في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وما ضوابطها وأصولها وشروط صحتها وآثارها عندما تقع صواباً، وآثارها عندما تقع على خلاف ذلك؟
في البداية يؤكد المفكر الاقتصادي الإسلامي، د .يوسف إبراهيم، أستاذ الاقتصاد، مدير مركز الاقتصاد الإسلامي في جامعة الأزهر، أن المعاملات السليمة تحركها منذ البداية نية صادقة، فالنية في الإسلام هي مناط قبول الأعمال أو عدم قبولها، ففي الحديث الصحيح "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، فالنظر إلى القلب يقصد به معرفة النية التي يكنها العامل في قلبه، وفي الحديث الصحيح أيضاً يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه" .
أشمل صور التعامل
وأول وأشمل صور التعامل التي أباحها الإسلام ووضع لها الضوابط والقواعد المنظمة لها هو (البيع)، فهو من المعاملات التي تقوم عليها حياة المجتمعات، وقد عرفته البشرية منذ القدم، وهو يقوم على تمليك المال بمال آخر بإيجاب وقبول عن طريق التراضي بين المتبايعين .
أحل الله تعالى البيع، وجعله الطريق الطبيعي لحصول الناس على ما يحتاجون إليه من إنتاج الغير، فليس بمقدور الشخص أن ينتج بنفسه كل ما هو في حاجة إليه، وإنما ينتج بعض ما يسد حاجته، ويحصل على بقية احتياجاته من الآخرين، بدلاً من الاستيلاء عليها بطريق غير مشروع مثل السرقة أو الغصب . قال الله تعالى: "وأحل الله البيع"، وبتبادل المال بين الناس عن طريق البيع، يكون الكل في خدمة الكل، فالمشترى يخدم البائع، والبائع يخدم المشتري، والطرفان مستفيدان .
ولأهمية البيع في حياة الناس، شرعه الإسلام ونظمه الفقه تنظيماً دقيقاً، وأحاطه بالضمانات التي تجعله يحقق مصالح الناس، ولا تنتج عنه مشكلات أو منازعات، وقد أجمع فقهاء الإسلام على مشروعية البيع استناداً إلى الأدلة والبراهين الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
المضاربة المباحة
ومن صور المعاملات التي كانت شائعة في الجاهلية وأقرتها الشريعة الإسلامية بعد أن ضبطتها بضوابطها كما يقول د .نصر فريد واصل، مفتي مصر الأسبق، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر (المضاربة)، واسمها مشتق من الضرب في الأرض، أي السير فيها للتجارة واكتساب الرزق، وقد كانت هذه الشركة معروفة في الجاهلية وكان من أشهر من يعطي ماله مضاربة العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها الإسلام وتعامل بها المسلمون إلى يومنا هذا .
وصورتها أن يكون لدى شخص مال وغير متفرغ لتثميره، أو غير قادر من الأساس على تثميره، فيلجأ إلى شخص آخر لديه فائض في القدرات الإدارية، ولا يملك رأس المال الذي يتمكن به من تشغيل واستغلال قدراته، وهنا تتكامل إمكاناتهما، ويستخدم كل منهما ما يملك استخداماً مفيداً، إذا اشتركا على هذا الأساس، بأن يقدم طرف رأس المال ويقدم الطرف الثاني العمل الذي به يستخدم رأس المال ويستغل، ويتفقان على توزيع الأرباح بينهما بالنسبة التي يرتضيانها، ولكل منهما نصيب في الربح حسب اتفاقهما على نسبة كل منهما فيه . فإذا حدثت خسارة، فإن صاحب المال هو الذي يتحملها، والمضارب يتحمل فقط جهده الذي بذله، وهذه هي العدالة بين الطرفين .
وهناك نوعان من المضاربة: (مطلقة ومقيدة) . فالمطلقة هي التي يعطي فيها صاحب المال للعامل حرية التصرف من دون قيود أو شروط . . أما المقيدة فهي التي يشترط فيها صاحب المال على المضارب شروطاً مقيدة غير منافية لطبيعة العمل .
غير أن المضاربة ليست محبوسة في هذه الصورة وإنما تستطيع أن تستوعب احتياجات المجتمعات إلى شركات كبرى، تضم الجمع الغفير من أرباب المال، كما تضم الجمع الغفير أيضاً من المضاربين أي أن المضاربة تقوم في عصرنا الحاضر على تعدد أفراد طرفيها .
المرابحة والإجارة
ومن صور المعاملات التي أقرتها الشريعة الإسلامية (المرابحة) وهي نوع من البيوع، تعامل به المسلمون من قديم، وتكفلت كتب الفقه ببيان صوره وشروطه، وعرفها الفقهاء بالعديد من التعريفات، وكلها تدور حول معنى واحد هو البيع بمثل الثمن الأول وزيادة متفق عليها بين البائع والمشتري . أي أن المشتري بدلاً من أن يساوم على الثمن حتى يصل إلى السعر الذي يرضاه، يساوم فقط على ربح البائع فوق الثمن أو فوق ما قامت عليه به السلعة . وهو يأتمن البائع في تحديد مقدار ما قامت عليه به السلعة، ومساومته تقتصر على مقدار الربح، هل هو 5% أم 6% أم 4% مثلاً . وصورتها أن يقول البائع للمشتري: ثمن هذا الإردب من القمح ألف درهم وربحي فيه عشرة في المئة، فيقبل المشتري أو يساومه في ربحه حتى يتراضيا على نسبة الربح .
كما أن من صور المعاملات التي أباحتها الشريعة الإسلامية لرعاية وتحقيق مصالح الناس (الإجارة) وهي عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بعوض معلوم . وهي بهذا المعنى نوعان: نوع يرد على منافع الأشياء، كاستئجار الأراضي والدور، والنوع الثاني يرد على منفعة العمل، كاستئجار شخص ليقوم بعمل ما .
الاستصناع
ومن صور المعاملات التي جاءت بها شريعة الإسلام (الاستصناع)، وهو عقد يمارسه الكثيرون منا، من دون أن يعلموا أنهم يمارسون عقداً من العقود التي تفرد بها الفقه الإسلامي قبل أن يعرفه الآخرون . وهو عقد قديم يتعامل به المسلمون منذ القرون الأولى، ويرى بعض الفقهاء أنه عقد مستقل، ويراه الجمهور نوعاً من عقد آخر هو السلم . وقد طبقه المسلمون كما قرره فقهاء الأحناف عقداً مستقلاً، يتعامل به عامة الناس من دون أن يسموه بهذا الاسم، لأنهم يرونه أمراً طبيعياً، تقوم عليه جوانب عديدة من حياتهم، فيذهب الشخص إلى تاجر الموبيليا ليصنع له أثاث بيته، ويتفقان على الثمن وموعد التسليم، ويذهب الشخص إلى صانع الأحذية ليصنع له حذاء يناسب قدمه، ويتفقان على الثمن وموعد التسليم . في هذه المعاملات التي تتم يومياً بين الناس يوجد عقد استصناع، حيث يقدم شخص المادة الخام والعمل، ويقدم الطرف الثاني الثمن . فالناس يتعاملون بهذا العقد من دون أن يسموه باسمه الفقهي .
عقد السلم
هذا العقد من العقود ذات الأهمية الكبيرة في الفقه الإسلامي، التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم ليحقق به مصالح فئة من الناس تحتاج إلى سيولة حاضرة، كي تتمكن من الإنفاق على منتج زراعي أو صناعي فتستفيد هذه الفئة، كما يستفيد من قدم لها التمويل في شكل سيولة حاضرة . تستفيد الفئة الأولى بإتمام مشروعها، ويستفيد من قدم السيولة بالحصول على منتج بسعر مناسب يستخدمه أيضاً في تحقيق مصالحه . واستفادة الطرفين تصب في مصلحة المجتمع، وزيادة الناتج القومي . ويتميز (عقد السلم) بأنه عقد يتقدم فيه الثمن ويتأخر المثمن . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم"، فالسلم يسمى أيضاً السلف كما هو نص الحديث الشريف . فهو نوع من البيوع يعجل فيه الثمن، ويسمى رأس مال السلم، ويتأخر فيه المبيع، الذي تضبط فيه السلعة بالوصف إلى أجل معلوم .
القرض والكفالة
ومن أشهر العقود التي أباحتها شريعة الإسلام عقد القرض وعقد الكفالة وغير ذلك من العقود التي مبناها على التيسير والرفق بالطرف المحتاج، إذ طبيعة عقد القرض أنه عقد إرفاق وتيسير على المدين ومساعدة له على أن يخرج من ضائقته، أو يتغلب على وضع وجد فيه نفسه محتاجاً إلى الاستعانة بإمكانات غيره من إخوانه القادرين على تقديم هذه المساعدة، وإخراجه من هذا الوضع الذي وجد نفسه فيه .
وإذا كان القرض من عقود الإرفاق، وليس من عقود المعاوضة، فمعنى ذلك أن الدائن لا يصح أن يأخذ من المدين شيئاً فوق القرض الذي قدمه إليه .
فالدائن ليس له حق في الحصول على شيء ما من مدينه، فوق القدر الذي قدمه له من المال، وأي زيادة فوق ذلك إذا كانت مشروطة في العقد فهي الربا الذي حرمه الله تعالى أشد التحريم، وأنذر آكله بحرب من الله ورسوله . بل وأشرك مع آكله الكاتب والشاهد والمعطى له . وقال صلى الله عليه وسلم عنهم: "هم سواء" أي في الإثم وارتكاب هذا الذنب الذي لا توجد له عقوبة توازيه من عقوبات الدنيا . قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين" . فهذا القرض هو عقد إرفاق بالمدين، والحصول على مقابل من المدين يناقض الرفق والتيسير الذي هو مضمون العقد، فهو يقترض لسد حاجته، وتكليفه بشيء فوق القرض، زيادة في احتياجه وليس تخفيفاً لهذه الحاجة . ولعل المقرض وهو لا يستحق أكثر مما قدم يقول: وما مصلحتي في تقديم القرض؟
إن ذلك كما يقول د .يوسف إبراهيم هو منطق الفكر الرأسمالي الذي لا يرى إلا هذه الدنيا، أما في المنطق الإسلامي فالدائن يرى مصلحته واضحة ومتحققة، فهو يقدم هذا القدر من المال لينال به الكثير من الثواب .
هذه بعض المعاملات التي جاءت بها أو كانت موجودة وأقرتها شريعة الإسلام بعد أن هذبتها وضبطتها بالضوابط والأخلاقيات الإسلامية لتحقق مصلحة الإنسان .