دبي – صوت الإمارات
من حسنات الإنترنت سهولة الانتشار لما يكتب، وإمكانية أن يقرأه ويعلّق عليه عدد لا نهائي من القراء، وهو وضع مغرٍ لكل من يهتمون بنشر أفكارهم بين الناس، وخاصة الكتاب، ومما يزيد من إغرائه أنه وسيلة انتشار لا تكلف أي مصروفات مادية بعكس الورق، لكن هذا الانتشار في بعض الأحيان مخادع، يجعل الكاتب المبتدئ ينظر إلى حجم التعليقات والاستحسانات المجامِلة التي يتلقاها من "أصدقائه" كأنها حكم نقدي بجودة إنتاجه، وبالتالي يعتبر نفسه قد وصل القمة، ويعتقد أن خربشاته الطفولية في فضاء مواقع التواصل الاجتماعي، المقلدة لغيره، والخالية من كل قيمة أدبية أو فكرية، هي إبداع أدبي، ويسعى إلى نشر ما يكتبه بشكل رسمي، في كتاب أو نشريّات محكّمة أو مواقع مسؤولة، ويبذل في ذلك كل جهد، حتى يخرج على الناس بكتاب "شعري" أو "نثري"، وتقام له الاحتفالات، ويصبح شاعراً مبدعاً أو روائياً راسخاً.
وكان في الزمن الشعري العربي الأول مدرسة شعرية سمي أصحابها ب"عبيد الشعر" اعتمدوا في صناعة الشعر -إضافة إلى الموهبة- على أمرين: أولهما رواية الشعر عن من سبقوهم من الشعراء والتتلمذ عليهم، وثانيهما تنقيح قصائدهم، ومراجعتها طويلاً حتى يستقيم عودها، ويبدو رونقها، فيخرجوها للناس، وقد يأخذ التنقيح سنة بأكملها، حتى سميت قصائدهم بالحوليّات، وقد كان أصحاب هذه المدرسة كلهم شعراء مبدعون من طراز أول، وبعبارة النقاد الأقدمين، كانوا "فحولاً"، ويبدأ هؤلاء بأوس بن حَجَر الذي كان تلميذه زهير بن أبي سلمى وكان من تلاميذ زهير ابناه كعب وبُجيْر، والشاعر الحطيئة، وأخذ عن كعب ابنه المضرب، وظلت السلسلة تطول يأخذ اللاحق فيها عن السابق، ما يعني أن مطالعة الشعر والخبرة بأساليبه تسبق التصدي لإنتاجه، ثم التصدي لإنتاجه يحتاج إلى تدرب وممارسة طويلة لكي يستطيع من يراوده أن يصل منه إلى شيء يحسن السكوت عليه، وحتى لا يقع في مساوئ التقليد، الذي يأخذه في دروب بعيدة عن الإبداع.
ومن الأفكار الشائعة لدى الأجيال الناشئة من الأدباء أن نترك قراءة السابقين حتى لا نقع أسرى لإنتاجهم، ونصبح مقلدين لهم، وهذه الفكرة خاطئة، لأنّ تكوين الأديب لا يمر إلاّ عبر قناة المطالعة، والإبداع الإنساني -إذا ما استعرنا له مقولة مارتن هيدغر عن الحقيقة- يمكن أن نقول إنه "جدلية فتجاوز"، هو جدلية بالاشتباك الفكري والخيالي واللغوي مع النصوص السابقة، ومحاورتها عبر القراءة، وتجاوز بإبداع نص جديد خاص بنا، لا يحاكي تلك النصوص السابقة، بل يحمل طابع الجدة، فالتجاوز "الإبداع" لا يحصل إلاّ بعد النظر في السابق والتمرس بتقنياته، لكي ننطلق منها لتقنيات جديدة، ولا مندوحة للأديب عن أن يقرأ ويقرأ ثم يقرأ لمن سبقوه ثم يكتب.